الجريمة والعقاب – فيودور دوستويفسكي

06/06/2020 عند 14:11 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

رواية: الجريمة والعقاب
لمؤلفها: فيودور دوستويفسكي
ترجمة: سامي الدروبي
صدرت عام: 1866

.

=====

اقتنيتُ رواية (الجريمة والعقاب) بجزئيها من معرض الكتاب عام 2016، لكنها مع ذلك ظلَّت حبيسة رفوف مكتبتي طيلة هذه السنوات، حتى جاءت أيام الحجر المنزلي هذه في عام 2020.

وكان الذي يمنعني من قراءتها -إضافة إلى ضيق الوقت المخصص للقراءة الورقية- تلك الرهبة المعتادة التي نشعر بها أمام الكتب والروايات الضخمة حجماً أو شهرة، لذلك بقيتُ أؤجل قراءتها عاماً بعد عام، بل إنني فضَّلتُ أن أبدأ ببعض الأعمال القصيرة لدوستويفسكي على سبيل التمهيد والاستئناس بأسلوب الرجل وأجوائه الروائية قبل اقتحام عمل (ضخم) مثل (الجريمة والعقاب).

وكان غريباً أن ما قرأتُه من روايات دوستويفسكي القصيرة (لم يدخل رأسي)، بل إني لم أكمل قراءتها إلا على مضض، حتى إذا شرعتُ في قراءة (الجريمة والعقاب) فوجئتُ بأني أكاد أنهي جزءها الأول في وقت قياسي جداً، وأني لا أترك قراءتها إلا مرغماً وبي شوق شديد للعودة إليها في أسرع وقت ممكن!

لقد جعلتني رواية (الجريمة والعقاب) أختبر حالةً قرائيةً فريدةً من نوعها؛ أن تتململ من الروايات القصيرة لمؤلف ما، في حين تلتهمك روايته الطويلة التهاماً.

لن أنسى أبداً أعصابي المشدودة وعينيَّ المثبتتين على الورق وأنا أقرأ مشهد القتل بأنفاس مقطوعة، مع شعور قوي عنيف بأنك حاضر مع (راسكولنيكوف) في بيت المرابية العجوز، بل بأنك أنت نفسك (راسكولنيكوف) يخفي أداة الجريمة في معطفه، ويتحيَّن اللحظة المناسبة للإجهاز على ضحيته بوحشية نادرة.

الرواية ليست (بوليسية) بالمعنى التقليدي للروايات البوليسية، فهي لا تطرح سؤال (من فعلها؟) ولا حتى (كيف فعلها؟) أو (متى فعلها؟)، بل السؤال الجوهري في الرواية هو (لماذا فعلها؟)، وهنا تمضي الرواية في معالجتها الدرامية للأغوار النفسية السحيقة للقاتل، وتجعلنا نواكب أعمق مشاعره الداخلية وأدقَّ خواطره التي يُفهم بعضها ولا يُفهم بعضها الآخر، لتظلَّ الرواية مفتوحة دائماً على سؤال (الإنسان المجهول) الذي يستحيل مهما تعمَّقنا في تحليله أن نقف على حقيقته، وأن نفهم الأسباب الصميمة وراء تصرفه على نحو يخالف المنطق.

لكل إنسان اختلالاته النفسية الخاصة التي تحمله حملاً على أن يخالف المنطق في بعض تصرفاته دون أن يشعر بذلك، وربما تعجَّب الآخرون منه لأنهم لا يعانون من نفس اختلاله النفسي أو لا يعرفون ذلك الاختلال أصلاً، ولو نظرنا لوجدنا أن لأولئك المتعجبين أنفسهم اختلالاتهم النفسية الخاصة التي تحملهم على مخالفة المنطق، ودون أن يشعروا بذلك أو ينتبهوا إليه.

نُشرت (الجريمة والعقاب) على شكل فصول مسلسَلة، ونلاحظ أن (دوستويفسكي) استوصى بالتقنيات (التجارية) التي يهواها القارئ، بحيث اعتمد على الإثارة والتشويق وكسر التوقعات، كما لم يفته أن يختم كل فصل بمفاجأة غير متوقعة تحبس الأنفاس وتشوِّق إلى الفصل القادم.

وكعادة الروايات الكلاسيكية، نلاحظ أن هنالك استطرادات كثيرة وإطناباً في الوصف واستكثاراً من التفاصيل والحوارات الجانبية المطوَّلة، ما سيضايق دون شك فئات عريضة من قراء العصر الحديث الذين تعوَّدوا على الوجبات الروائية السريعة.

لا أخفي كذلك أني شعرت بشيء من التراجع في الرواية في جزئها الثاني وفصولها الأخيرة، وبأن بعض الشخصيات الفاعلة لم يُختم حضورها بنهايات درامية تليق بها، إذ اختفى بعضها فجأة دون أن تجتمع خيوط الحبكة كلها في نقطة التقاء واحدة نهائية. نعم هذا أقرب إلى الواقعية وإلى منطق الحياة، لكننا في الرواية نحب أن نرى اجتماع الخيوط وأن تحظى كل شخصية بنهاية (مُشبعة) تليق بها.

أخطر ما في الرواية، وأجمل ما فيها أيضاً، أنها تمسُّ في القارئ شيئاً مظلماً شديد العمق في نفسه، وأعني هنا تحديداً مشاعر (راسكولنيكوف) بعد أن ارتكب الجريمة… إنه ذلك الظلام الدامس الذي يعمُّ النفس ويفيض على الوجود. شعور التوجس والخوف والقشعريرة، وبأنك ارتكبت فعلاً خطيراً مدمراً، وبأنك لست في كابوس في كوابيس المنام بل تعيش في اليقظة بكل ما فيها من تحفز الحواس… النظرات الزائغة والشك في كل ما حولك ومن حولك، وذلك الشعور الكئيب المرعب بأن أمرك سيُكتشف وبأنك ستفقد كل شيء، وبأنك على موعد مع الألم والحرمان بل ومع العدم نفسه… لقد نجحت الرواية في أن تضخَّ في قارئها شحنات رهيبة من الشعور بالإثم وتأنيب الضمير، مع أحاسيس أقرب ما تكون إلى البدائية الأولى أو (الخوف الأولي)، ما قد يذكرنا بأول (فعلة) شنيعة فعلناها في أيام طفولتنا القديمة، وكيف استبدَّت بنا قشعريرة الخوف من أن يُكتشف أمرنا ويقع علينا العقاب المبرح أو الحرمان الأليم…

نهاية الرواية غريبة حقاً! بل قد يخيَّل للقارئ أنها مستعارة من نمط روائي آخر… نهاية رومانسية تعِد بسعادة قادمة، وبشكل يناقض تماماً الأجواء السوداوية القاتمة لكل الأحداث السابقة. نهايةٌ بدت لي مثل رشَّة الماء التي يُنضح بها على وجه الغائب عن الوعي ليفيق من غيبوبته… استيقظ! انهض! سيكون كل شيء على ما يرام! الأمر لم يكن خطيراً كما كنت تظن، قصتك ليست مأساوية إلى هذا الحد! وبالفعل جعلتني النهاية أعيد النظر في أحداث الرواية كلِّها بعين أخرى، فوجدتُ أن الجانب المأساوي في الرواية هو تحديداً الجانب الداخلي، النفسي، الجوَّاني. أما لو نظرنا إليها نظرة خارجية متجردة، واكتفينا بتقييم أحداثها البرَّانية فقط، فإن عنصر المأساة فيها سيتضاءل جداً بل سيكاد يختفي، ولن نرى في القصة سوى شابٍّ ارتكب جريمة حمقاء في مطلع شبابه، وأنه حين سينهي فترة عقوبته سيكون بعدُ في عنفوان الشباب، بل سيكون لديه من الدوافع ما يحدوه إلى بدء حياة إيجابية جديدة…

أهمُّ ما نستفيده من رواية (الجريمة والعقاب) أن وراء كل سطح خارجي للإنسان أعماقاً يستحيل أن يُسبر غورها، وأن المأساة الخارجية مهما عظُمت فهي ليست شيئاً أمام المأساة الداخلية التي لا يكتوي بنارها غير صاحبها الذي ينطوي صدره عليها: ذلك الإنسان المجهول…

06/06/2020

اكتب تعليقُا »

RSS feed for comments on this post. TrackBack URI

أضف تعليق

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم.
Entries و تعليقات feeds.