رجـعُ الـصّـدى ~

21/08/2010 عند 15:56 | أرسلت فى فـيـض الـمـداد | 12 تعليق

null

.

عجيبٌ هو حال الخدر المتبادل.

وعجيبةٌ هي تجلِّيات الحقيقة التي تختزل كل ضجيج العالم في كلمة، ثم تقتاده صاغراً إلى إحدى نهايتين مهما تباينت منعرجات الطريق.

أياً يكن، فليس لما نراه من حولنا تفسيرٌ آخر، وليس ضرباً من العبث القدريِّ تلك الأصوات النابعة من مصادر شتى، والمتخذة أشكالاً أكثر شتاتاً، والتي تمخر عباب الأثير ليُغرق دفقها أرواحاً وعقولاً ونفوساً، بل إنها شظايا انفجارٍ كونيٍّ كبير، كبيرٍ جداً، انفجارٌ كونيٌّ لم يره منا أحد.

انفجارٌ كونيٌّ كبيرٌ أخرج آدم من الجنة ونزل به إلى سطح البسيطة، وطرد إبليس من رحمة الله بعد أن سخط على قضائه، وتوعَّد عباده أجمعين، ودعا بالإنظار فأُنظِر.

إثر ذلك بدأت حكاية التاريخ، وتلك كانت أولى السطور في قصة الغواية.

هناك، بين الصدور التي أثلجها برد اليقين، والصدور التي استشرت فيها أورام الضلال، ثمة حقيقةٌ لم تكتمل بعد فصولها، محكمةٌ كونيةٌ تخبرنا بها رسائل السماء، وتدلُّ عليها دقائق الأقدار، وأصوات العقول، ومنحوتات الأقلام.

ليس لأصوات الكون غير مصدرين، وليس في الآخرة غير جنة ونار، وكل ما سوى ذلك رجع الصدى، ولحنٌ وتحوير.
 
 

* * *
 
 

شرُّ البلية ما يبعث على الكتابة.

بعد صلاة العصر بقليل، كنا نأخذ مقاعدنا في أحد المقاهي استعداداً لحصة دراسة، الأغراض كثيرة جداً والطاولة صغيرة جداً، كنت منهمكاً في هندسة المكان بحيث يتسع لأغراض الدراسة وأكواب القهوة والماء معاً، وكان صديقي يذيب أكياس السكر في كوب القهوة ويدير الملعقة الصغيرة في داخله ببطء.

تمت عبارات الترحيب والاحتفاء، وأخذتنا بعدها أحاديث شتى لا يربط بينها رابط، سوى أنها أبعد ما تكون عن موضوع جلستنا الرئيسي، الدراسة!

لا شيء غريب، هذا ما يحدث دائماً على كل حال، نأتي لأجل الدراسة، ثم نمضي الوقت في التهرب منها ما وسعنا الجهد لذلك، ثم ننصرف تحت جنح الظلام ولم ندرس شيئاً أو نكاد، والعجيب أن ضمائرنا تكون مرتاحةً رغم ذلك!

تحدثنا طويلاً عن أحوال الطقس، وظروف العمل، وأوقات الفراغ، وأصدقاء آخرين، واقتراب موعد الامتحانات، وأننا لم نذاكر شيئاً بعد، ولم نكن لنشرع في المذاكرة قبل أن يعيد كل واحدٍ منا سرد قصصه المثيرة مع مواد الجامعة وأساتذتها، وكيف نجح في مادةٍ ما، وكيف رسب في أخرى، ولم نكن لنبدأ قبل أن نغتاب أساتذة الجامعة واحداً واحداً، ونملأ طاولة المقهى بعبارات السخط والتذمر منهم ومن فدائح أفعالهم وحقارة مآتيهم، وكذا أساليبهم العجيبة في التدريس ووضع الامتحانات، ثم تليها بعد ذلك فضائح التصحيح ووضع العلامات وما يتلو ذلك من فسادٍ أخلاقيٍّ وإداري.

فضفضةٌ يوميةٌ لا بد أن تزخر بها طاولات المقاهي، وهي أشد ما تكون اشتعالاً في فترات الامتحانات، حتى ليخطر لك أن تحمد الله حمداً كثيراً على أن الطلاب لا يضرمون النار في جامعتهم وأساتذتها معاً، وكذا عميدها والمسؤولين عليها كلهم دفعةً واحدةً دون استثناء، وهيهات رغم ذلك أن يشفى الغليل!

صمتنا قليلاً، وتذكرنا فجأةً ما جئنا لأجله، وتناولنا على مضضٍ أوراقنا.

استغرقَنَا جهدٌ دراسيٌّ متثائبٌ دام قرابة ساعة، أحسب أنه كان جهداً فاشلاً! إلى أن دخل إلى المقهى رجلٌ ما.

طويل القامة، يرتدي معطفاً طويلاً يصل إلى ركبته، على طريقة مفتشي الشرطة في الروايات البوليسية، ويحمل بيده حقيبةً أنيقةً تمنحه ذلك الانطباع بأنه رجلٌ من أصحاب الشأن.

أجال بصره بين الجالسين في المقهى، وانبسطت ملامحه فجأةً إذ رأى صديقي، توجه نحونا شبه مهرول، مصافحاً كلينا، ترحيبُ صديقي به دلَّ لي على أن بينهما معرفةً سابقة.

لم يجلس الرجل الغامض، بل ظلَّ واقفاً يسألنا عن الحال، وألقى نظرةً على دفتري، والآلة الحاسبة الموضوعة فوقه، تظاهر بالذكاء، وبأنه استطاع أن يميز المادة التي ندرسها من خلال نظرةٍ سريعةٍ ألقاها على الدفتر.

– “هي الإحصائيات إذاً.”

– “أجل.”

– “عند الأستاذ الشرقاوي أظن، صحيح؟”

– “لا، الأستاذ الخزَّار.”

– “هكذا إذاً، ابذلوا جهدكم، أعانكم الله.”

– “آمين، شكراً لك.”

ثم صمت، وعلمتُ أن له علاقةً ما بالجامعة.

ظل واقفاً قرب طاولتنا، وأنا وصديقي نرفع أبصارنا نحوه مع ابتسامةٍ مواربةٍ وهزَّات رأسٍ خفيفةٍ جداً، تشبه تلك التي تكون قبيل استئذان شخصٍ ما بالانصراف، كانت لحظة صمتٍ قصيرةٍ بدا خلالها أنه سينصرف إلى حال سبيله، وهو ما كنا نتوقعه، وبصراحةٍ نتمناه، لولا أنه كسرها بسؤالٍ ليته لم ينطق به:

– “وما الأخبار يا شباب؟ هل من سياسة؟ هل من نشاطٍ انتخابي؟”

أخفضت رأسي فوراً، وصرفت وجهي عنه ميمماً إياه شطر باب المقهى، نحن إذاً حالُ سبيله! سؤاله هذا قتل آخر ذرة احترامٍ كان يمكن أن أكنَّها لذلك المجهول، استدرك صديقي مجيباً إياه بارتباكٍ واضح تجلَّى في ابتسامته الخجولة:

– “قليلاً، قليلاً فقط، ليس إلى ذلك الحد…”

أضحكني جوابه هذا، كنت أعلم جيداً أن صديقي ذاك لا يربطه بموسم الانتخابات أي رابط، من أين جاء ذلك القليل إذاً؟ لا بأس، فبعض المجاملة أحياناً لا يضر، لكن يا ليته كان أقل لطفاً مع ذلك الرجل بالذات، فما إن نطق بجوابه هذا حتى وضع الرجل محفظته فوق أغراض دراستنا، ثم سحب كرسياً قريباً وجلس بجوارنا، دون استئذان، فارضاً نفسه ومقتحماً خلوتنا الدراسية.

بدا لي وكأنه بائع طلاسم، وما الفرق؟ إنه موسم الانتخابات، وبائعو الطلاسم يكثرون في مثل هذه المناسبات، جميعهم يتجولون، جميعهم يحملون محفظة، وجميعهم يفتحون محفظتهم ليخرجوا منها أوراقهم الانتخابية، وكثيراً من الكلام الفارغ الذي لا أفهم كيف يقتنعون هم أنفسهم بصحته.

وتماماً كما توقعت، فتح محفظته، إنه يذكرني بأولئك الباعة المتجولين الذين يرتدون ثياباً أنيقة، ويطرقون أبواب البيوت، أو يعترضون سبيل المارة قرب المكتب الكبير للبريد، ثم يعرضون مبيعاتهم في شكلٍ سينمائي، بل كاريكاتوريٍّ مضحك، ويعتقدون أنهم يطبقون بذلك نظريةً من نظريات التسويق الحديثة.

أخرج من محفظته أوراقاً ملونةً عليها كتابةٌ ورسم، نعم، أوراقٌ انتخابيةٌ تحمل رمزاً لأحد الأحزاب السياسية، ولعله لا غرابة في أن أقول لكم بأني نسيت أي رمزٍ كان، وأي حزب، أكان الكتاب أم الحمامة؟ الجرار أم المصباح؟ لا أذكر! كل ما أذكره أنه وزَّعها علينا بحرارة، وتعابير وجهه تقول ما كنت أعرف أنه سينطق به:

– “هذا هو الحزب الحق.”

كما توقعت، تحول لسان الحال إلى لسان مقالٍ وقح، سقط الرجل من عيني حتى أني صرت أتجنب النظر إلى وجهه، تهرباً من أي حديثٍ قد يرغب في مشاركتي إياه، وسرحت ببصري وراء باب المقهى أتأمل الغادين والرائحين.

إنه واحدٌ منهم، مثلهم، مثل بقية الآخرين في مواسم الانتخابات تلك، مثل كل عميل، مثل كل سياسيٍّ منحطّ، مثل كل منعدم ضمير، مثل كل منتمٍ إلى حزب، مثل كل الذين يوزعون أوراقهم الانتخابية على الآخرين في حركةٍ دعائيةٍ بليدة، ويظنون أنهم، بطريقة أو بأخرى، سيقنعونهم بالتصويت على حزبهم ذاك، لأنه هو وحده (الحزب الحق).

أمثالك كثرٌ يا سيدي، لكن دع عنك استغباء الطلاب والاستخفاف بعقولهم.

بادره صديقي بسؤالٍ غبي، أو ذكيٍّ ربما! غمس حساسيته في ابتسامةٍ لطيفةٍ أعطته طابعاً مازحاً بعض الشيء:

– “اعتقدتُ يا سيدي أنك من حزب العدالة والتنميـ…”

وقبل أن يكمل سؤاله قاطعه الرجل غاضباً وقد امتقع وجهه ورفع كفه إلى الأعلى بانفعال ساخط:

– “أي عدالةٍ وأي تنمية؟! إياك أن تسمح لأحدهم بأن يضحك عليك! لا عدالة هناك ولا تنمية! صدقني، أقسم لك، أولئك مجرد حثالةٍ من المنحطِّين، لقد انتميت لحزبهم سابقاً وشهدت ألاعيبهم، أعرف جيداً ما الذي يدور هناك، لا تنخدع!

ثم وضع سبابته على الورقة التي تحمل رمز حزبه ونقر عليها بانفعالٍ وأكمل:

– “هذا، هو الحزب الحق.”

نطقها أخيراً، أغبى جملةٍ يمكن أن ينطق بها منتمٍ، أو أن يصدِّق مثلها ذو تفكيرٍ حر.
بدأت أنزعج أكثر، تمادٍ آخر ويتخذ انزعاجي شكل الغضب، بالفعل لم يمهلني طويلاً، سأل صديقي أولاً:

– “في أي حيٍّ تقيم؟”

أجابه صديقي، وكان ألطف مني بكثير وأوسع صبراً، ثم نظر إلي رافعاً حاجبيه دلالة استفسارٍ مشابه، دون أن ينطق بشيء.

أجبته إجابة باردةً مقتضبة، مثل غصن شجرةٍ يابس، ألقيتها في وجهه وسرحت ببصري خارجاً، لم يبد عليه أنه أحس بجفائي، ولم أستغرب، بدا واضحاً أن أجهزة الشعور عنده مخدَّرة بأفيون الانتماء، ولم يكن أقل وقاحة، ولم يمنعه أي تصوُّرٍ مسبق، أو حذرٍ ما من أن نكون منتميين لحزب آخر مثلاً، أن يطلب منا (الحديث إلى أهل الحي)، بعبارةٍ أخرى، أن نعمل معه في حملته الانتخابية! وأن ندعو الأقارب والأصدقاء والجيران إلى التصويت على حزبه ذاك، الحزب الحق!

تحول الغضب الصامت إلى ألمٍ في جبيني، وبدأت تنمو في حلقي غصةٌ صغيرة، دافعتها برشفةٍ منفعلةٍ من القهوة.

لا أعتقد أن من أمور الدنيا ما من شأنه أن يصل بغضبي إلى حده الأقصى، مثل هذا النمط من الاستغباء، ومراودة العقائد، ومحاولات الاستقطاب، إنه ذلك الأسلوب المستخفُّ بالعقل، والذي يحاول البعض بواسطته إقناعك بالانتماء لجماعته أو حزبه، وأنك بدون ذلك الانتماء غافلٌ لا تدري شيئاً.

إنهم يغفلون في غمرة حماستهم الطائفية أن في مراودة العقائد ومحاولات الاستقطاب رسالةً ضمنيةً تفيد بأن الداعي هو أكثر علماً من المدعوِّ وأكثر خبرةً منه في الحياة، وأنك أيها المستقطَب بانتمائك لتيَّاره الديني أو الفكري أو السياسي ستحقق واحداً من أهم رهانات إنسانيتك.

كيف يغفلون على أن في مثل هذا العمل، والذي لا أبالغ إن قلت بأنه غير أخلاقي، أستاذيةً مُهينة، وتعالٍ لا يقبله كل من حرَّر عقله من قيود الانتماء الأعمى؟

كيف يظن ذلك الغبي وأمثاله، أن محاضراته التي ألقاها عن حزبه سوف تقنعنا بأفضليته، وأنه فعلاً هو الحزب الحق، وأننا سوف نصوِّت عليه طائعين راغبين، وأنه مختلفٌ عن غيره من الأحزاب؟!

كيف تختلف الأحزاب والخطاب متشابه؟ كيف يختلف السياسيون والشعارات هي نفسها؟
متى يدركون أنه لم يعد خافياً على أحدٍ أن ربطات العنق وحدها هي التي تختلف؟!
 
 

* * *
 
 

دعوني وشأني! فليس يسع من شاهد ظلَّ الحقيقة أن يأنس بصور العناصر، وليس يسع من سمع ترنيم الروح أن يطربه رجعُ الصَّدى.

دعوني ووحدتي، فلا مؤنس لي سواها…

 
 

* * *
 
 

ضيفاً ثقيلاً كان، وضجراً غاضباً كنتُ، الوقت يمر، والصبر يطول، ولا يبدو أن ثرثرته ستنتهي قريباً.

لم يقطع كلامَه إلا دخولُ فتاةٍ ما إلى المقهى، هي من معارفه على ما يبدو، ما إن رآها حتى قام إليها بحفاوةٍ مبالَغة، وابتسامةٍ كانت الأولى منذ دخل، استغرقا في حديثٍ قصير، ونظرتُ إلى صديقي وعيناي تنضحان سخرية، غمزني مشيراً بذقنه إليه ساخراً هو الآخر، علمت أنه مثلي غير راضٍ عن وضعنا ذاك، ابتسمتُ له بسخريةٍ مضاعفة وأنا أهز رأسي يمنةً ويسرة، قرَّب وجهه مني وكأنه يريد أن يهمس لي بشيء، قرَّبتُ أذني منه مصغياً، قال:

– “لم لا تشاركنا الحديث يا رجل؟ ما بك صامتٌ هكذا؟ ساعدني!”

توقعت أن ذلك السياسي المحنك قد انتبه لجفائي، لأني لم أنطق بكلمةٍ مذ أجبت عن سؤاله حول مكان إقامتي، حتى أنه في بداية ثرثرته كان يراوح بصره بيننا معاً، أنا وصديقي، لكنه بعد قليلٍ اقتصر على توجيه الخطاب لصديقي فقط دون أن ينظر إلى وجهي، أصبحت عنصراً سلبياً في تلك الجلسة، رثيت لحال صديقي الذي كان يجاريه ويداريه ويتفاعل مع كلامه، وكنت أدرك جيداً أنه ليس أقل مني سخطاً عليه.

كعادتي، لذت بالصمت.

رشفةٌ من كوب قهوتي، الرجل مازال يحادث الفتاة، يبدو أن كلامهما بدأ ينحدر نحو نهايته، وبدأت عباراتهما تقترب من صيغ الوداع، همَّت الفتاة بالانصراف، لكنه استدركها، سألها مستوقفاً إياها بلطفٍ زائد:

– “عفواً آنستي، لم تخبريني، هل من سياسة؟ هل من نشاطٍ انتخابي؟”

انزعجتْ، وارتفع صوتها فجأةً وهي تلوِّح بيدها يمنةً ويسرة بحركةٍ سريعة:

– “لا لا لا!!! إلا الانتخابات، ليس لي في السياسة، أكرهها ولا أتابعها ولا تربطني بها أية علاقة، ولست مهتمةً بها إطلاقاً، عموماً أراك بخير، مع السلامة!”

قالتها بانفعالٍ بالغٍ وانصرفت خارجةً من المقهى بخطواتٍ قصيرةٍ وسريعة، وتركته واقفاً في مكانه وقد تجمَّدت ابتسامته المنكسرة في وجهه، عاد إلى كرسيِّه يجرُّ أذيال حرجه، رسم الصرامة على ملامحه ململماً ما تبقى من كرامته، هذه المرة حدَّقتُ به جيداً، واخترقتُه ببصري مع شبه ابتسامةٍ ماكرة، محاولاً أن أتفرَّس في قسمات وجهه علائم الإحباط والخيبة، كان كل ما فعله أن عوَّج شفتيه دلالة الاحتقار، وزوى ما بين حاجبيه، وبدأ يشير برأسه وكفِّه نحو باب المقهى مراتٍ سريعةً متعددةً وهو يتنهد ساخطاً ويقول:

– “سحقاً، هذا النوع من البشر…”

ولم يكمل الشتيمة! ترك إهانته مبتدَئاً دون خبر، جملةً مبتورة النهاية، ربما لم يجد من الكلمات ما يستطيع أن يحمِّله أوصاف الاحتقار التي أراد أن يصف بها تلك الفتاة وأمثالها، ممن بلغوا ذلك الحد الأدنى من الوعي بأن اللعبة السياسية هي قذرةٌ من ألفها إلى يائها، وأن موسم الانتخابات كله ليس سوى مهرجانٍ صاخب، مقرف، مثيرٍ للغثيان، لا أقل من ذلك ولا أكثر.

– “أعتذر عن تأخري.”

كدت أقول:

– “لا تعتذر يا سيدي، بل نحن من يشكر تلك الفتاة التي أراحتنا من صوتك لدقائق، وخلَّفتك إثر انصرافها في حرجٍ لا تُحسد على مثله.”

لكني لم أفعل!

واصل الحزبيُّ كلامه، كان كلاماً مملولاً، معاداً، مكروراً، نسمعه كل يومٍ ونقرأ مثله في اللافتات والجرائد، وفي وجوه المنتخَبين والسياسيين ومن تبعهم بظلمٍ إلى يوم الدين، لم أكن لأعير اهتماماً بما يقول بقدر ما أثارني ذلك التشابه الكرتوني المضحك بينه وبين غيره، كل ما بقي في ذاكرتي من محاضرته بضع كلمات تافهة، كان يرددها الجميع في ذلك الوقت، مدح الحزب، وذم البقية، والكثير الكثير من الوعود المعسولة.

((حزبنا، حزبنا، العمل الجاد، الصدق، نوايا الإصلاح، حزبنا، التاريخ، حزبنا له تاريخ، العدالة، الديموقراطية، الأحزاب الأخرى، المسؤولية، الأعضاء، الانتخابات، العدالة، التقدم، التطوير، التنمية، التحديث، حزبنا، حزبنا…))

تمنيت لو أُخرس آلة التسجيل تلك بأية طريقة، لكنه استنزف معظم وقتنا المخصص للدراسة، لم ينتهِ إلا وقد قال كل ما لديه، وأتم مهمته المقدسة في الدعوة إلى حزبه، الحزب الحق.

لا أذكر كم من الوقت مر، قبل أن يلملم أغراضه ويصافحنا وينصرف، موصياً إيانا بالاهتمام بدراستنا، وتاركاً على طاولتنا أوراقه الانتخابية الباهتة.

رميتها في أول صندوق قمامةٍ بعد انصرافي…
 
 

* * *
 
 

صدى كلماته لا يزال يؤذي أذني، تركها تدور في خلَدي ورحل مثل نافخ الكير، وأنا عائدٌ إلى البيت مشياً على الأقدام تحت ستار الليل، هائماً على عقلي، شارد الذهن بل متشرِّده، وقد ذهب بي التفكير كل مذهب.

أحب المشي كثيراً، خاصةً في الليل، وكثيراً ما أفضله على الركوب، دائماً يمنحني المشي طاقة تفكيرٍ كبيرة، أضبط نفسي أحياناً وأنا أفكر باللغة العربية الفصحى أثناء مشيي، وتخطر ببالي أفكارٌ وعباراتٌ وعناوين نصوص، وأحداث قصصٍ مبتكرة، وكتبٌ وروايات، وأجد نفسي وقد انهمكت في الكتابة، كتابةٌ لا ورقة فيها ولا قلم، كتابةٌ ذهنيةٌ مسترسلةٌ تنطلق عندما أمشي، وتتوقف عندما أتوقف، وكأن المشي عندي محرِّك كتابة، أو كأنه يحولني إلى قلمٍ يكتب على الرصيف، بحروفٍ شفَّافةٍ سرعان ما تنمحي.

كم كتبتُ قصصاً ورواياتٍ لم يقرأها أحد، لأنها انمحت وتلاشت في ذرات الأثير، كنت دائماً أنساها، أو أنسى معظمها فور توقفي عن المشي.

هذا النص نفسه الذي بين أيديكم، هو وليد مشيٍ ما، أو عودةٍ ليليةٍ إلى البيت سيراً على الأقدام، غير أني كنت مضطراً إلى أن أبدأ رحلة تفكيرٍ جديدةٍ أجمِّع فيها شتات الذاكرة، وأحاول نحتها بما تيسَّر لي من بيان، ومن أسفٍ أني أتفاجأ دائماً بأن النص المكتوب هو أقل جودةً بكثير، من ذاك الذي هجست به وأنا أمشي.

الشوارع والأرصفة أصبحت زرائب أوراقٍ انتخابية، والجدران أصبحت معارض لوجوهٍ وابتساماتٍ وربطات عنق، كلهم يجتهدون في تقديم أنفسهم بصورةٍ أفضل، وأنا أتجنب الدوس على إحدى تلك الصور، خشية أن تكون محتويةً على لفظ الجلالة، يتحدث الناس دائماً عن أن لفظ الجلالة يداس يومياً عن غير قصدٍ بواسطة العابرين في مواسم الانتخابات.

كان طريقاً صامتاً سوى من هدير أفكاري، إلى أن بلغ أذنيَّ رجع صدىً ما، رجع صدى…
عبرت الشارع متوجهاً نحو مصدر الصوت، مدار العشرين من أغسطس، زقاقٌ واحدٌ جهة اليسار، وعالمٌ جديدٌ استوقفني.

حشودٌ من الناس رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، سيارات الأمن الوطني التي أسميها أحياناً (الخوف الوطني) ماثلةٌ هناك، وجماعةٌ من رجال الشرطة تقف على طرفي الشارع لتحافظ على أمن الحشود.

حملةٌ انتخابيةٌ أخرى.

دسست نفسي وسط الزحام، وتطايرت أمام وجهي أوراقٌ انتخابيةٌ تحمل رمزاً وشعاراً وصورة رجل، رفعت بصري نحو مصدر الصوت، فإذا بالرجل المطبوعة ملامحه على الصورة واقفاً وسط شرفة أحد المنازل، أصلع، وذو كرشٍ ضخمة، يحمل بيده مكبِّر صوتٍ وحوله يقف رجلان أنيقان كحارسين شخصيين، بدا واثقاً من هيئته، معتدّاً بأناقته، وآثار الطرب واضحةٌ على محياه ونبرة صوته، أمثال أولئك تطربهم التصفيقات التي تُهدى إليهم، والشعارات التي تُرفع لهم، والحملات الصاخبة التي تجول الأحياء والشوارع صباحاً ومساءً، وتُخرِج رؤوس النساء من نوافذ بيوتهن ليتفرَّجن على مواكب الوعود الكاذبة.

كأي كاذبٍ آخر، كان يقف خطيباً في قومه، وكأي سياسي، بدأ باستظهار وعوده مكبَّرةَ الصوت وذات صدى، والناس أسفل منه يهللون له ويهتفون باسمه ويطربون لكلامه، تسليةً وفرجةً كما أظن، وليس عن صحيح تصديقٍ واعتقاد.

– “سوف نحقق لكم، سوف ننجز لكم، إدماج المرأة في التنمية، محاربة البطالة والفساد الإداري، إنعاش الشغل، العدل والمساواة، الديمقراطية، الحريات، التنمية المستدامة، إصلاح الشوارع، نظافة المدينة…”

كان يصبُّ مصطلحاته الدعائية هذه وأمثالها مثل بطلٍ من أبطال المسلسلات التاريخية، قبل أن يبدأ بالدعوة إلى التصويت على حزبه بغباءٍ مستفحل، الرجل حتماً واقعٌ تحت تأثير مخدِّر! كثيراً ما استغربت كيف يدعو منتمٍ ما شخصاً آخر للتصويت على حزبه، وكأنه لا يعلم أن للناس مواقف تتأرجح بين الانتماء ربما لحزبٍ آخر، وبين مقاطعة الانتخابات جملةً وتفصيلاً، وبين عرضٍ رخيصٍ لذمةٍ تباع بدراهم معدودة.

ليس للاقتناع مكانٌ في مواقف الناس، هم وصوليون أحياناً، لكن ليسوا أغبياء!

بطل الشرفة ذاك شبيهٌ بغيره هو الآخر، كم من أزقة طنجة وغيرها من مدن المغرب شهدت في نفس تلك اللحظة شُرفاً أخرى يطل منها أبطالٌ آخرون؟ ويحتشد أسفلهم أناسٌ آخرون؟ وتحيط بهم سيارات أمنٍ أخرى؟ وجميعهم يكررون الوعود الكاذبة نفسها؟

تماماً مثل رجل المقهى، والذي علمت من صديقي بعد انصرافه أنه أحد الأطر في جامعتنا، سيئ السمعة وفاسدٌ إدارياً، وله من المواقف المخزية مع الطلاب ما سوَّد وجهه في عيونهم وأطلق ألسنتهم بعبارات الشتم والدعاء عليه.

غبيةٌ تلك الحملات التي تُصرف فيها الأموال الطائلة.

جهادٌ كاذبٌ لعقيدةٍ أكذب، لكنه أفيون الانتماء، والخدر المتبادل.

ما أسهل شراء الذمم في أيام الانتخاب، يحدث أن أكون آمناً في بيتي فأسمع فجأةً صدى صوتٍ يقترب تدريجياً، ممزوجاً بقرع الطبول ونعيق الأبواق، أسرع لأقرب نافذةٍ وأتأمل موكباً من مواكب الخزي والعار، وجوهٌ مألوفةٌ لأناسٍ أعرفهم جيداً، ذاك أراه كل يومٍ متكئاً على جدارٍ أسفل الزقاق، وذاك لا يفارق كرسيَّ المقهى القابع طرف الشارع، وذاك يصلي معنا في مسجد الحي، ووجوهٌ رأيتها من قبل ولا أذكر أين، ها هم الآن يعبرون حيَّنا وقد جمعت شتاتَهم جولتُهم الانتخابية، كلهم يرفعون لافتاتٍ مألوفة الرموز، ويصرخون بملئ حناجرهم مرددين شعاراتٍ مسجوعةً بتكلِّفٍ لغويٍّ ساذج، ويمرون بصخب.

وتخفت أصواتهم وهم يبتعدون، وتختفي أصواتهم وقد اختفوا.

لم تُبحَّ حناجرهم إيماناً بقضيةٍ ما وإن كانت فاسدة، بل هي تلك الورقة النقدية التي يتسلَّمونها في نهاية اليوم ثمناً لصراخهم في الموكب الانتخابي، هم يدركون جيداً أن ذاك المرشح الذي رفعوا صورته اليوم وصرخوا باسمه طيلة النهار، سيختفي غداً ولن يعثروا له ولا لوعوده على أثر، ولقد رُوي أكثر من مرة، ومن أكثر من واحد، أنهم تسلموا أوراقاً انتخابية من شبابٍ يوزعونها، ناولوها لهم وهم يقولون:

– “خذ، ولا تصوت عليه!”

الجميع ساخطٌ عليهم، حتى المروجون لهم! كيف لا وهم يرون بوضوحٍ وفي كل مرةٍ أن (سيماهم في كروشهم)، تلك التي تنتفخ باطِّرادٍ موسماً بعد موسم، ظهوراً بعد ظهور، كذباً بعد كذب.

بعض الاستقطاب قد ينفع مع البسطاء مقابل ورقة نقدية، لكن أيُّ إهانةٍ تكمن في استقطاب أولئك الذين ربؤوا بأنفسهم عن مثل هذه الوضاعة؟

ما من إهانةٍ أشد على الأعصاب من الاستخفاف بالعقول، ولا استخفاف أكبر من محاولات التطبيع التي تحاول عبثاً وسائلُ الإعلام ترسيخها في ذهنية المجتمع، حتى ليخيل إليك أنهم ينتظرون منا أن نصدق فعلاً ما يهذرون به في نشرات الأخبار وبرامج الحوارات السياسية، ثم يتحدثون بعد ذلك بكل جرأة، بل بكل وقاحة، عن مشكلة عزوف الشباب عن العمل السياسي، وظاهرة مقاطعة التصويت الذي هو حقٌّ وواجبٌ وطني، كما يقولون وبملامح لا تزداد استغراباً إلا بقدر ما تزداد بلاهة.

ها هي ذي برامج السياسة تُتلفز وتعرض، وها هي ربطات العنق بشتى أنواعها وألوانها وتوجهاتها الفكرية تتحلَّق حول طاولاتٍ مستديرةٍ تتجادل فيما بينها باحتدام، ومقدم البرنامج يثير الفتنة بينها أولاً ويؤلِّب إحداها على الأخرى، ثم يجتهد بعد ذلك لإخمادها عبر تهدئة الحاضرين ومطالبتهم الالتزامَ بقواعد النقاش!

أيامٌ بعد ذلك مضت، وشارف الموسم المحموم على الانتهاء.

يوم الجمعة، أصابع كثيرةٌ تلطخت بحبرٍ أزرق رسم بصماتها على مكاتب التصويت، وساد صمتٌ رهيبٌ إثر ذلك.

كُنست الأوراق الانتخابية من الشوارع والأرصفة، وأزيلت ملصقات الجدران، وهدأت عن الناس حمَّى الموسم الانتخابي.

وظهرت النتائج ليلاً، ثم اختفى بعد ذلك المرشَّحون كلهم ناجحيهم ومنهزميهم، هؤلاء نحو أطماعهم، وأولئك يجرون أذيال مهانتهم، ويتوارون عن القوم من سوء ما بُشِّروا به.

صباح السبت، عادت الحياة اليومية إلى ما كانت عليه.

تماماً كما كانت عليه دون أي تغيير.

دون أي تغييرٍ على الإطلاق…
 
 

* * *
 
 

حمداً لله أن رأيت أحوال المنتمين قبل معرفتي للانتماء، فلو عرفت الانتماء قبل المنتمين فلربما انتميت!

منذ نعومة إدراكي وشيءٌ ما في داخلي يرفض الإيمان بصنمٍ فكريٍّ كالانتماء، وما أكثر الأصنام الفكرية التي طالما قطعت على العقل البشري طريق التفكير الحر، وتركته سجيناً لأحادية التصور، وأحادية التفكير، وأحادية الثقافة، أحادياتٌ مَقيتةٌ تمخَّضت عنها ظواهر تعصُّبيةٌ سامَّة، نخرت في جسد الأمة وقطَّعته فرقاً متناحرة الفكر، وتياراتٍ جارفةً نحو دركات الغواية، حتى لا تكاد ترى حولك غير أدمغةٍ مغسولة، تحترف التظاهر بالتواضع، وفي ثنايا خطابها ترفُّعٌ ضمنيٌّ عن كل من خالف أفكارها، إنها تردد دائماً نفس الكلام المعاد المنقول حرفاً من أدبياتٍ صفراء أنهكتها الأرَضة، إن أصواتهم هي مثل الصدى الذي يتردد في أرجاء الجماجم الفارغة.

مساكين هم، أحوالهم كما رأيتُ تدعو إلى الرثاء.

وهل يثير الشفقة أكثر من دماغٍ مغسول، وعقلٍ جثمت عليه أصنام الفكر وصدَّته عن التحليق الحرِّ في فضاء التفكُّر أشباحٌ من ضباب؟

تعساً لأبصارٍ لم تُكشف عنها غشاوة التعصب، وتعساً لأفواهٍ لا تردِّد إلا صدى، وتعساً لحياةٍ تُهدر أوقاتها في أطراف المقاهي، وتتبخر روحها في الهباء هدراً مع دخان السجائر، ويتلاشى نور بصرها بين صفحات الجرائد، تصيُّداً لأخطاء عدو، أو طلباً لعورة خصم، أو نكايةً بطرفٍ مخالفٍ كان قدر السقوط إليه أسبق.

عندما رأيت واقع الانتماء، كان علي أن أتمرَّد.

وعندما آذى بصري منظر العقول المعطلة، وأزعج سمعي رجع الصدى، كان علي أن أكون غريباً، أن أختلف، أن أتطرَّف.

وإنه لعهدٌ قطعته على نفسي، حين أبيتُ على عقلي وتفكيري أن يقع في مستنقع الأحادية، وأن يستبدل تلك النظرة الحرة الشاملة، الثلاثية الأبعاد، مصيبةً كانت أم مخطئة، بأخرى مقيدةٍ محدودة، أحادية البعد.

لقد فضَّلت عوضاً عن ذلك أن أفرد جناحيَّ وأحلق عالياً في سماء الفكر، وفضاءات التفكُّر، حراً دون أن تحدد جهة تحليقي أدلجةٌ ما، ودون أن توجِّه تصوراتي وأحكامي لعبةٌ ديماغوجيةٌ ماكرة.

مسلمٌ سنِّي، وليس لي بعد ذلك في الدين أو الفكر أي انتماء.

ذلك أن بعض الانتماء عندي كأي مخدِّرٍ للعقل، فيه إثمٌ كبيرٌ ومنافع.

وإثمه أكبر من نفعه…
 
 

* * *
 
 

أواخر أبريل، حركةٌ غريبةٌ دبَّت في مكاتب العمل، وبدأت بعض الوجوه تُكشف على سطحيتها، ما المناسبة؟ إنه اقتراب الفاتح من شهر ماي!

لم أكن أعلم عن هذا اليوم من السنة أكثر من كونه عطلةً نرتاح فيها من الذهاب إلى المدرسة، غير أن المنشورات التي عُلِّقت على لوحة الإعلانات أخبرتني بمعلوماتٍ جديدةٍ لم يكن قد سبق مني أن أخذتها على محمل الجد.

الفاتح من ماي عيد الشغل، الموسم النقابي الخصب، وكثيرٌ من رجع الصدى أزعج أذنيَّ من جديد.

كنتُ بعدُ موظفاً جديداً في الإدارة العمومية التي أشتغل فيها، وحدث أن وجدتُ فوق مكتبي قصاصةً صغيرةً قرأت ما كُتب عليها، فإذا هي إعلانٌ لمسيرة الفاتح من ماي، معنونٌ باسم النقابة وشعارها، ومذيَّلٌ بالعبارات الحاثة على النضال والكفاح من أجل الحقوق المهضومة، قرأت الإعلان بملل، ولم أزد عن أن جعلت منه كرةً صوَّبتها نحو أقرب سلة مهملاتٍ من مكتبي.

تناهى إلى مسمعي صراخٌ ما، ميَّزت من أصوات الصارخيْنِ أنهما عضوا نقابتين متعاديتين، نشب بينهما شجارٌ كلاميٌّ عنيف.

لم أكلف نفسي عناء البحث في واقع النقابات وما يدور تحت طاولاتها، لا أعرف الكثير عن نوع العفن الكامن هناك، لكن القليل يكفي لأبتعد تماماً!

أقبل عليَّ يومها زميل عمل، بادرني بسؤاله، غلب على نبرته طابع البداهة:

– “متى نلتقي غداً وأين؟ الانطلاقة ستكون من أمام مسجد محمد الخامس على الساعة التاسعة صباحاً، هل ستتناول فطورك في البيت أم تفطر معنا في المقهى؟”

قالها هكذا، بصيغةٍ مباشرةٍ قطعية، عن تصوُّرٍ مسبقٍ وتعميميٍّ ساذج، دون أن يسألني أولاً ما إذا كنت سأشارك في المسيرة أم لا، وما إذا كنت مقتنعاً أصلاً بمسيرات العمال والموظفين تلك، أثارت أعصابي أحاديته، رفعت إليه نظرة استغرابٍ وأجبته:

– “لن أحضر غداً، لن أشارك في المسيرة.”

فغر فاه من شدة الدهشة، وقطَّب حاجبيه باستنكارٍ شديد، وبدأ يتساءل مستغرباً كيف ولماذا، أجبته أجوبةً مختصرةً الهدف منها إنهاء النقاش، لكنه أبى إلا أن يثير أعصابي أكثر، ويحدثني بمنطق الأستاذية الذي يحبون جميعاً تقمصه، لأنهم قدماء ولهم خبرةٌ أطول في خفض الجباه، ونحن صغارٌ مستجدُّون لا خبرة لنا في الحياة، اتخذتْ ملامحه شكل الحماسة الممزوجة بنوايا طيبةٍ تريد لي الخير، وبدأ يسرد عليَّ محفوظاته مجدداً.

كأي منتمٍ مغسولٍ دماغُه، كان يحاول طرح وسائلِ الإقناع لديه، المعلَّبة في ذهنه كسمك السَّردين، لا شك في أنه يحفظها عن ظهر قلب، وهو مستعدٌّ لترديدها في جميع الأزمنة والأمكنة والظروف، ومع جميع الأشخاص، دون أن يعي أن لمعلَّبات الفكر أيضاً تاريخ صلاحيةٍ تتعفَّن بعد انتهائه، وتصبح غير صالحةٍ للاستهلاك.

كان يقول:

– “لا يجب عليك أن تفكر هكذا، يجب أن تكون ذا تفكيرٍ نضالي، طالما علَّقنا عليكم آمالاً كبيرةً أنتم معشر الموظفين الجدد من الشباب، الإدارة لا ترحم أحداً ولا تراعي ذمة أحد، يجب أن تشارك في المسيرة واسمع كلامي، أنا أكبر منك سناً وأكثر منك خبرةً وتجربة، من مصلحتك أن تشارك في المسيرة وإلا…”

– “وإلا ماذا؟”

– “وإلا فتحمل مسؤوليتك!”

– “وما مسؤوليتي؟”

– “اعلم أن لا شيء يخفى على النقابيين هنا، كل شيءٍ عندهم موثَّقٌ ومتابَع، واحذر كل الحذر من أن يضعوك في قائمتهم السوداء، عندها فلتستعدَّ لسيلٍ من إزعاجاتهم ومعاكساتهم، أنت صغيرٌ وحديث التوظيف ومازلت لا تعرف شيئاً عن طبيعة الحياة الإدارية، سوف يضعون الشوك في طريقك، ويعيقون مسار تقدمك، ويعاكسون حقوقك الأساسية كموظفٍ في هذه الإدارة، ولن يدافع عنك أحدٌ إن ظلمك رئيسك أو جار عليك سُلَّمك الإداري، سوف يعاكسون حقك في الاستفادة من مراكز الاصطياف، وفي الترقية المهنية أيضاً، وغير هذا الكثير مما لا تعلمه…”

– “ليفعلوا ما يشاءون، لا أهتم! هذه الأمور النقابية ليست من ميولي في شيء، ولن أشارك في نشاطٍ لا أفهم كنهه جيداً.”

– “أنا أشرح لك كل شيءٍ إن شئت، اسمع يا بنيّ، أنا أعلم جيداً أن معظم النقابيين حثالة، وأنهم في أعلى مستوياتهم قد باعوا الصفقة مع الإدارة، وأنهم في نهاية المطاف يأخذون لأنفسهم الترقيات ومراكز الاصطياف والأسفار المنظمة ورحلات الحج والعمرة بالمال الحرام، إن هذه أمور نعرفها جيداً وندركها كما ندرك بقية جوانب الفساد التي لا تخلو منها أي مؤسسةٍ من مؤسسات القطاع العام أو الخاص، لكن هذا كله ليس مانعاً من المشاركة في النشاطات النقابية، بل على العكس من ذلك تماماً، هذا بالضبط ما يجب أن يحملكم معاشر الشباب على أن تقتحموا المجال بقوة، وأن تحملوا مشعل النضال بعدهم بأيادٍ نظيفة، وأن تصلحوا ما أفسدوه، وتعيدوا للنقابة هيبتها وقوتها كمؤسسةٍ تصون العمال وتدافع عن حقوقهم.

أنتم الشباب عماد المستقبل، فلا تقعوا في نفس خطئنا عندما أبينا اقتحام المجال في أيامنا الأولى، وها نحن الآن قد شابت رؤوسنا ولم تزدد الأوضاع إلا فساداً، نحن نعوِّل عليكم، يجب أن تعوا هذا جيداً وتدركوه.”

ابتسمتُ لحسن نواياه، في أفكاره سذاجةٌ ممزوجةٌ بخنوعٍ لا يزال عالقاً في معظم موظفي الجيل السابق، والذين تعرضوا في أيامهم الأولى لضروبٍ شتى من تسلُّط الرؤساء وظلمهم واستغلال نفوذهم بألوانٍ من الشطط يصعب تصوُّرها وتصديقها.

طال حديثه، وأمهلته حتى انتهى، لم يزدني حديثه إلا إصراراً على موقفي، ختم كلامه الطويل باستفهامٍ ممزوجٍ برجاء:

– “أتعي قولي؟ أتفهم ما أقصده من كلامي؟ هل سنلتقي غداً؟”

تبسَّمت في وجهه وأجبته ممازحاً:

– “هل أعتبر هذا تهديداً؟”

لكنه لم يبتسم! بل رفع ذراعيه إلى مستوى رأسه ولوى عنقه قليلاً دلالة إبراء الذمة، ثم قال وهو ينصرف عائداً إلى مكتبه:

– “اعتبره كما تشاء، لقد أبرأت ذمتي وأرحت ضميري ووفيت ما علي من واجب النصح لك، ويبقى القرار الأخير لك، أنت من ستتحمل مسؤوليتك.”

سألته ممازحاً وأجابني جاداً! يبدو أن ترَّهات النقابيين قد اتخذت فعلاً شكل القضية في نفوس كثيرٍ من الموظفين المهووسين بتمثيل أدوار النضال، بحثاً فيما يلي عن أدوار البطولة.

تعرَّضت بعدها لدعواتٍ كثيرةٍ ونصائح وتأكيداتٍ من عددٍ من الزملاء، وكان كلامهم متشابهاً جداً، بل متطابق المعاني، اختلافه فقط في الألفاظ ونبرات الصوت، أزعجتني تلك التحذيرات البليدة الدالة على خوفٍ مترسِّخٍ من الوقوع بين مطرقة الإدارة وسندان النقابة، وبين المطرقة والسندان لم يكن هنالك خيارٌ غير الانجراف مع التيار.

لكن الأمر برمته لم يكن يعنيني، تهديداتٌ مادية كتلك لم تكن لتحرك فيَّ أدنى شعورٍ بالاحتراس والقلق، الأمر الوحيد المؤكد لدي هو أنني لن أسير في موكب أناسٍ لست بالنسبة لهم سوى رأسٍ يكثِّر من سواد حشودهم، ويساهم معهم في تعدادٍ قد يكون رهاناً يحققون بوساطته جزءً من بطولاتهم وأطماعهم ومصالحهم الخاصة.

أنا لست طفلاً، لا تخدم بي أفكارك، ولا تستعن بي على مطامعك!

مرَّ فاتح ماي دون أن أشارك في المسيرة، وبلغني أنهم سألوا عني أثناء تسجيلات الحضور والتقاط الصور التوثيقية التي يحدث أن تصير أسلحةً تهديديةً إن اقتضى الأمر.

جمعني مساءً ذلك اليوم صندوق محادثةٍ عبر الانترنت بزميلة عملٍ كانت زميلة دراسة، قبل أن تجمعنا الأقدار مع آخرين في نفس الوظيفة.

سألتها:

– “هل شاركتِ في مسيرة اليوم؟”

– “طبعاً! وأنت؟ لم أرك هناك، ألم تحضر؟”

– “لا.”

– “ولم؟!”

– “لست مقتنعاً بكل ذلك الهراء.”

– “اعذرني، لكن النقابة هي من تدافع عن حقوقنا ضد ظلم الإدارة وسطوتها.”

– “وأنتِ هل تصدقين هذا؟”

– “طبعاً! هذه أبجديات! الإدارة لا ترعى في الموظفين إلًّا ولا ذمة، والنقابة درعنا الواقي ضدها، سوف نحتاج رصيدنا النضالي في صفوفها فيما بعد، يجب أن ننظر لأبعد قليلاً من أنوفنا.”

– “وكأن النقابة ملاكنا الحارس! بل لا خير في كليهما، الفساد مستشرٍ في النقابات أيضاً وأنت تعرفين هذا جيداً، ثم إني لم أحب تلك الطريقة التي يخاطبوننا بها ويدعوننا بواسطتها للمشاركة في نشاطاتهم، لا أحب كثيراً أن يتم التعامل معي بمنطق القطيع أو حشد الأتباع.”

– “نعم ولكن، ينبغي أن تكون مدركاً بأن المقاطعة السلبية لن تفيدك في شيء، ضع في حسبانك أنك ربما قد صرت منذ اليوم ضمن لائحتهم السوداء، ولسوف يضايقونك في كل ما يتعلق بحقوقك الأساسية ولن يدافعوا عنك لو تعرضت يوماً لظلم الإدارة.”

هي أيضاً، صارت تتكلم لغتهم.

غسلوا دماغها بشعارٍ ما، ونصبوا في عقلها صنم الانتماء الأعمى لنقابةٍ لا تبرع سوى في إنتاج الشعارات وترديدها، وهو أمرٌ مؤسفٌ أن نجد لتلك الشعارات الجوفاء سوقاً رائجةً عند بعض أولئك الذين لم يحصِّنوا عقولهم بعد، بشكلٍ كاف، ضد محاولات الاستقطاب، ومناورات التحرُّش الفكري.

وماذا بعد فاتح ماي؟ اختفت الشعارات من جديد، وأزيلت الملصقات الدعائية عن لوح الإعلانات، وعادت حياة العمل اليومية إلى ما كانت عليه، إلى ما كانت عليه دون أي تغيير.

دون أي تغييرٍ على الإطلاق…
 
 

* * *
 
 

صدقاً، لا أعرف على وجه التحديد ما الذي يطبخه النقابيون في المقاهي من مؤامراتٍ ودسائس ضد بعضهم البعض، لكني أرى نوعهم البشري ظريفاً حقاً! إنهم مضحكون عندما يتظاهر الواحد منهم بالانشغال دوماً، ويتصرَّف بتحذلقٍ مصطنع، ويعمل على إيهام نفسه بأن تلك الصورة المثالية التي يجتهد في رسمها لنفسه، قد بلغت فعلاً أذهان زملائه كما يحب ويشتهي.

مع ذلك، تظل الحقيقة الوحيدة التي يعرفها الجميع هي أن النقابيين غالباً هم أكثر الناس تهاوناً في مهامهم، واختلاساً لأوقات العمل، وإدماناً لقراءة الصحف التافهة، والجلوس مع بعضهم البعض في المقاهي والحانات، يطفئون حرائق نفوسهم مع ما يدخنونه من سجائر الموت.

هم أسهل الناس استفزازاً للكلام، يكفي أن تعير الواحد منهم أذنك للحظةٍ حتى يصبَّ عليك وابلاً من محفوظاته المطوَّلة عن العمل النقابي وتاريخ النقابة وإنجازاتها وطموحاتها المستقبلية، ويكون أكثر حماسةً عندما ينطلق متحدثاً عن بطولاته هو تحت لوائها.

أدمغةٌ مغسولةٌ أخرى، ولو أردنا تجريد الوضع من كل الاعتبارات، لتكشَّف لنا أن الواقع الفكري والسياسي برمَّته لا يخدم سوى المصالح الشخصية لنخبةٍ عليا قليلة العدد، كثيرة النفوذ، وفي نهاية المطاف تستأثر هي بكل ما لذ وطاب من ماديات العيش، وتترك البقية متخبطةً في جهادها المستميت من أجل سرابٍ هي ليست ببالغته ولو بعد مئة عام.

ندُرَ مذ توظَّفتُ أن أسمع من أحدهم كلاماً مفيداً في شأنٍ من شؤون الدنيا أو الآخرة، لم يعد أبغضَ إلى نفسي من أن يجبرني مقهىً اضطراريٌّ على مجالسة بعض الموظفين الذين لا يعدون أن يكونوا مجرد أسطواناتٍ قديمةٍ صدئة، تردد الكلام نفسه في كل مرة.

لا حديث سوى عن غلاء الأسعار، وضعف الأجرة، والمغامرات النقابية، والترقيات المهنية، والقيل والقال، والغيبة والنميمة، والتنابز بالألقاب، والمشاكسات مع الرؤساء، وقصصٌ مختلسةٌ عن أقوال المدير وأفعاله، وإشاعاتٌ عن قراراتٍ مخيفةٍ قادمةٍ من الأعلى.

مثيرٌ للاشمئزاز حقاً أن تجالس أناساً لذَّتهم الوحيدة هي في المجاهرة بمعاصيهم، والدَّعوة إلى مثلها، يتبجَّحون بما قد برعوا فيه من فنون التآمر ودسِّ السموم وصناعة الدسائس، والخيانات الزوجية، وارتداء ألف قناعٍ وقناعٍ بحسب المواقف والأشخاص، وما تقتضيه المصلحة الذاتية الخاصة في أكثر صورها أنانيةً وانحطاطاً.

ودائماً هنالك مستفيدٌ من كل هذا، ولا شيء يقضُّ مضجع الفساد أكثر من شعبٍ يفكر، لذلك كان على الشعب أن ينشغل بمثل هذه الأمور كي تبعد الشُّقَّة بينه وبين إعمال الفكر، لأنه إن أعمل الفكر فسوف تكون مشكلة!

مشكلةً حقيقيةً يدرك البعض خطورتها.

يدرك البعض خطورتها جيداً…
 
 

* * *
 
 

وا أسفاً على حال أمتنا أمة الإسلام، وقد أجاب غير قليلٍ من أبنائها دعوة إبليس، ومرُّوا بعيون الغفلة على خطبته التي سيخطبها في أهل النار.

بإعراضنا عن منهج اللهِ ألبسنا اللهُ شِيَعاً، وأذاق بعضَنا بأس بعض، قُطِّعنا أراضي ودولاً، مذاهب وأفكاراً، ومازال البعض يفني حياته جهاداً في سبيل عصبيةٍ منتنة.

لو علم المتعصبون من الناس ومرضى التحجُّر الفكري أن الهدف من الانتماء كحاجةٍ إنسانيةٍ طبيعية، كما ينبغي أن يكون، هو خدمة الصالح العام، وتقديمه على المصلحة الخاصة، والعمل الجاد طلباً لكسب رهان التنمية والتقدم بعيداً عن مظاهر التعصُّب والغلوِّ ونبذ الآخر، لو علموا ذلك لكانت أحوالنا بخير، ولكان الهدف من حواراتنا وجدالاتنا معرفة الحق والرجوع إليه، والخضوع له واتباعه، بتواضعٍ تامٍّ بريءٍ من خبائث النفس البشرية، مجللاً بأطيب النوايا.

ولو حسُنت نوايا كثيرٍ من المتكلمين باسم الدين والفكر والفلسفة ونظريات الإصلاح الإنساني والاجتماعي، لما كان لهم احتكامٌ إلى غير شرعة الله، ولما خالط أحدَهم أدنى شعورٍ بالترفع عن الغير أياً كان.

إلا أن لفجور النفس كلمةً أخرى، ونصيباً أكبر في جلِّ ما يشكِّل الصورة الفاسدة للأرض التي استُخلفنا فيها، فما أدَّينا حق الاستخلاف ولا حتى عُشره.

ليس من العبث القدري أن تختل موازين العقول، وليست ظواهر اجتماعيةً عابرةً تلك التي غلبت على شكل حياتنا اليومية، حتى أصبحت جزءً منها لا نستنكره ولا نحس باختلافه.
فتنٌ يرقِّق بعضها بعضاً.

أورام التطبيع الجاثمة على جسد المجتمع.

تطبيعٌ سياسيٌّ وفكريٌّ واقتصاديٌّ وأخلاقي، وفي النهاية نجد أن لكل إنسانٍ صرخته التي يجأر بها، لكل إنسانٍ نزعته التي يجاهد لأجلها، طلباً لكرامته، ورغبةً منه في أن يثبت لنفسه أولاً، قبل الناس، أنه كائنٌ حيٌّ موجودٌ على سطح الأرض.

أذكر أني رأيت مراهقاً يعرِّف نفسه في إحدى محادثات الإنترنت بعبارة:

— “أنا سعودي!”

ثم أعقبها بتلك الجملة العنصرية الشهيرة:

– “غيرك ينقص وأنت تزيد!”

استنكرتُ جهله، واعترضتُ على جملته، فأجاب قائلاً:

– “أنا سعودي!”

ناورته قليلاً، ولم أسمع منه غير جوابه الوحيد، وأصرَّ عليه إصراراً عجيباً نادراً، حتى أني سألته:

– “ما دينك؟”

فأجاب:

– “أنا سعودي!”

– “نعم يا سيدي! علمنا أنك سعودي، لكني أسألك عن دينك وليس عند بلدك، ما هو دينك؟”

– “أنا سعودي!”

أعماه انتماؤه المتعصب حتى عن إعلان دينه! تركته، آخر ما قد يرغب فيه الإنسان أن يستمر في النقاش مع أمثال هؤلاء، والذين يفلحون في أن يستخرجوا منك رغبةً دفينة في ضربهم!

وليس أحسن حالاً منه كل من يتعصبون لانتماءاتهم الجغرافية، ويسمحون لها بالسيطرة على أذهانهم حتى تختمر هناك وتتعفَّن، فلا يكون لهم حديثٌ عن غيرها، ولا تجد أحدهم متحدثاً إلا وهو يتفاخر بمتعلَّقات بلده كلِّها، خيراً كانت أم شراً، حقاً كانت أم باطلاً، وأنا أتساءل كلما رأيت شيئاً من ذلك ما مدعاة التفاخر؟!

أي إنجازٍ قد حققه المرء بانتمائه لبلدٍ ما حتى يفاخر بذلك الانتماء ويتعصَّب له؟ لم يختر أحد منا موطن ولادته، فما حجة التعصب؟

ولو أن أحد هؤلاء المتعصبين قد وُلد في بلدٍ آخر لكان متعصباً لذلك البلد دون بلده، أما علموا أن انتساب المرء إنما يكون لعمله؟ أما استوعبوا قول القائل:

– “من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه”؟

وهل أشنع من أن يتشوه مفهوم الوطنية في أذهان الناس، ويتحوَّل من حبٍّ إيجابيٍّ محرِّكٍ نحو النهوض بالوطن وخدمته، إلى أسوأ صفاتٍ قد يصاب بها إنسان؟

الكبر والغرور، احتقار الآخر، السطحية، التحجر الفكري…

حتى أن بعضهم بلغ به الجهل والتعصب حداً جعله يظن أن انتماءه لبلده يجعله أرفع منزلةً من الناس وأرقى عنصراً منهم.

ويظن البعض الآخر أن لا حقيقة للدين الإسلامي إلا ما يفهمه ويفتي به علماء بلده، وكل ما عدا ذلك فهو بدعةٌ وضلالة.

ويفاخر البعض بانتمائه للعروبة، ويعتبر العروبة المجرَّدة مفخرةً في حدِّ ذاتها، هل بعد هذا الجهل جهل؟

ليس لانتماء العروبة أي ميزةٍ تميِّز الإنسان إن لم يكن ذا تقوى، على أن الأعجمي إن كان تقياً فإن أعجميته لا تنقص من أفضليته شيئاً أبداً، فما الاعتزاز بالعروبة إذاً دون التقوى؟ وهو بالضبط ما تطبِّل له وسائل الإعلام وترقص على أنغامه أصداء الأدب والفن.

ولنبحث في كتب التاريخ وسير أعلام الإسلام، وسنجد أن كثيراً من أكابرهم رحمهم الله لم يكونوا عرباً، ومع ذلك مازال شعار العروبة يُرفع بتعصُّبٍ في أرقى مستويات الإعلام المعاصر، هل ثمة ما هو أبلغ من هذا في وصف جاهلية العصر المقنَّعة؟

بل ثمة فعلاً ما هو أكثر غباءً من كل هذا!

وهو أن هناك فعلاً من يعتبر تشجيع منتخب بلده الوطني لكرة القدم شكلاً من أشكال الوطنية!

بل إن وطني حيث ألقى أحبابي، وطني حيث ذكرياتي، وطني حيث مراتع صباي ومآثر حنيني، أياً كان مكانها في أرض الله.

لست معترفاً بالحدود السياسية التي رسمتها مطامع البشر وأمراضهم النفسية، ولست أرفع علم بلدٍ أبداً، بل حيث ترتاح نفسي، وحيث شعوري بالأمان فثمة وطني، وكفى.
 
 

* * *
 
 

عجيبٌ حقاً، حال الخدر المتبادل.

ومثيرٌ لأشجان النفس، أن تكون أكبر أحداث التاريخ الإنساني نتيجة نزواتٍ عابرةٍ لمرضى نفسيين أسرى شهوة النفوذ، أو المال، أو الحكم، أو إراقة الدماء.

كم حروباً سقت أديم الأرض بدماء القتلى؟ وكم حقداً تأجَّج في النفوس تجاه النفوس؟ وكم حبراً أحمر دُوِّنت به كتب التاريخ؟

كم مريضاً بجنون العظمة أقحم نفسه في ذاكرة العالم؟ وأجبر العالم على نعته فعلاً بصفة “العظيم”؟

لا شيء من تعقيدات العالم وأسئلته المحيرة غيرُ قابل للاختزال في تفسيرٍ بسيطٍ واضح، ذلك أن كل ما في العالم من أثرٍ للإنسانية، ورجعِ صداها، هو تجلٍّ من تجليات النفس البشرية التي ما كانت لتتغير على مرِّ التاريخ.

لهذا يعيد التاريخ ولادة نفسه.

لأن النفس البشرية بين جنبينا هي نفسها لا يبدِّلها تعاقب القرون والأزمان، لأن ما من نفسٍ بشريةٍ إلا وأُلهمت فجورها وتقواها.

لأن سنن الله في الكون ما كانت لتتبدَّل.

لأن مصدر الغواية منذ بدء الخليقة واحد…

ليس للتاريخ إذاً إلا أن يعيد نفسه، وليس للفكر الضال سوى أن يقف منبهراً أمام رسائل القدر، محاولاً إخفاء انبهاره وقد أضناه البحث عن تفسيراتٍ لا تزيده إلا تيهاً، في حين أن ضالَّته قد أُنزلت كتاباً من السماء على المبعوث رحمة للعالمين، كتاباً يُخرج الناس من ظلمات الجهل إلى نور اليقين.

ويومَ الحقيقة تُكشف الحجب عن حقائق الأرواح، ويُبعث الناس على نيَّاتهم.

يومها توضع موازين القسط، وتقام المحكمة الكبرى، ويتميَّز الدعاة على أبواب الجنة، من الدعاة على أبواب جهنم.

يومها يتبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا…

وتُكشف عنهم الأغطية…

فإذا البصر يومئذٍ حديد…

12 تعليق »

RSS feed for comments on this post. TrackBack URI

  1. لا شيء يمكنني إضافته هنا، كتعليق..
    قد اختفيت لشهور ثمّ أظهرت كل الإبداع في ليلة ^_^
    ماذا أقول؟ استمر فقط، استمر!

    • أهلاً أهلاً بك يا محمد شكراً جزيلاً لك على المرور 🙂
      .
      هههههههههههههه إلا أنني لست مختفياً منذ شهور بل أرى أن وتيرة التدوين ما تزال ثابتة بحسب عداد الشهور 😀 ..
      .
      كـُن بخير 😉

  2. أنس يا أنس ..
    ماهذا الموضوع الماراطوني ؟
    الان اعرف لماذا لا تدون كثيرا .. ذلك لأنك تجمع 10 تدوينات في واحدة 😛
    عندما انتهيت من قرائته نسيت عماذا كان يتحدث هيهي..
    كل ما أتذكره أنه رائع ، وليس ذلك بالشيء الغريب منك 😀
    حظا موفقا

    • أهلاً وسهلاً بك يا سيرين مرحباً 😀
      .
      الموضوع كان ماراطونياً لأحارب به تكاسلي عن الكتابة .. وآمل أنني نجحت في ذلك :p
      .
      لك جزيل الشكر سيرين وحظاً موفقاً لك أيضاً 🙂

  3. دعوها فانها منتنة !
    التعصب لنسب او وطن او جماعة او حزب … هو من دعاوى الجاهلية التي دأب الإسلام على استئصال شأفتها منذ بعثة رسول الله صلى الله عليه و سلم .
    ما تدهورت أحوال المسلمين اليوم إلا بنشوء النعرات العصبية و القومية بين أبناء العقيدة الواحدة ، فما دانت لهم مشارق الأرض و مغاربها إلا يوم كان شعارهم :

    أبي الإسلام لا أب لي سواه *** إذا افتخروا بقيسٍ أو تميم

    لا انتماء للمسلم إلا لعقيدة التوحيد .
    الغريب في مسألة الإنتماء لحزب او نقابة او جماعة … أن تجد المنتمين حالين : إما متعصب او إمعة .
    الأول مخلوق مشوه نفخ الشيطان في دماغه , وطمس من بصره , وأضعف من ذوقه .. أما الثاني فمخلوق هلامي منافق يتلون كالحرباء ، إن جلس مع أهل الإيمان قال آمنت معكم وإن خلا إلى شياطين الإنس قال إنما أنا من المستهزئين .
    ما بلغت تجارة الرقيق ذروتها إلا في القرن الواحد و العشرين .. كيف لا و أبشع أنواع الاستعباد استعباد العقول .. فمع كل التطور الذي بلغه هذا القرن لازالت الذمم تباع و تشترى بأبخس الأثمان، والعقول تقولب حسب هوى أصحاب المصالح و كأن أصحابها كراكيز لا يملكون من أمر أنفسهم شيئا …
    صراحة عجبت من أمر النقابات التي تحدثت عنها .. كنت أعلم أن لهؤلاء أجندات خفية لكن لم أتصور يوما ان لهم قوائم سوداء كالتي تحدثت عنها !!
    على أية حال ..الحديث في هذا الموضوع ذو شجون
    ماشاء الله تدوينة عملاقة شكلا و مضمونا .. بورك في قلمك
    في أمان الله ^_^

    • ما شاء الله سيموني تعليق في قمة الروعة أعجبني كثيراً وأثلج صدري .. يسعدني غاية السعادة وجود فكر كالذي لديك خاصة إذا اقترن بأسلوب رائع كأسلوبك ..
      .
      معك في كل كلمة قلتِها وصدقت في كون المنتمين إما متعصب أو إمعة .. وأضيف حالة ثالثة وهي أن بعض المنتمين قد يكون غبياً سهُل استخفافه وشراء ولائه بوعود كاذبة دون أن تُتهم نيته .. فئة المغفلين هذه موجودة مع الأسف ..
      .
      وبورك في قلمك يا سيموني .. لا تغيبي عنا طويلاً ^_^

  4. سبحان الله….هذا الفكر يستحق التقدير و التشجيع و يا ليته يصل لكل محتاج الى حرية روحه من قيود الثقلين …..و بالنسبة لي اقدم اسفي لكل شخص شبيه لذي المعطف و المحفظة فبعدي يرفع راية جهلي لكل توحد ذكرته لا اعرف سوى الاسلام و الحمد لله في ذلك …..كما العادة كتاباتك طويلة و مشوقة و نهايات تعقد اللسان…..في انتظار

    • مرحباً بك من جديد منى وشكراً جزيلاً لك على المرور الجميلة والتعليق الأجمل 🙂
      .
      كما ذكرتِ فانتماؤنا للاسلام يظل الحل الوحيد لتوجيه العقل والفكر توجيهاً صائباً .. وهو الانتماء الوحيد الذي لا يعيب الانسان ولا يضعه في قفص الاتهام إن كان أهلاً له ..
      .
      ومع الأسف الشديد نلاحظ أن كثيراً من المسلمين هم ليسوا أهلاً لهذا الانتماء العظيم وهم يسيؤون لصورته بتصرفاتهم وأفكارهم الخاطئة ..
      .
      أسأل الله التوفيق لي ولكم جميعاً ^_^

  5. السلام عليكم..

    ما شاء الله تبارك الله.. كانت تدوينة رائعة روَت نفسي بعقلانيةِ وكثافة المحتوى والمضمون..

    رجعُ الصدى.. عنوان جمع في طياته ملخصات لذلك الصدى الخائر المرتد عن عقول إسمنتية حبست نفسها في عنق زجاجة الانتماء المتعصب لمذهب أو حزب أو طائفة حتى غدت تكرار مقيت للآخر مجرّّد عن كل تفرّد فكري حرّ ..

    التعصّب ذلك الوباء المتفّشي في الأمة والداء المنبثق من تلكَ الموروثات الجاهلية، وكلّ ذلك كانت نتيجته أحزاب متصارعة وطوائف متناحرة و فكر تبعي متعصب لانتمائه متبنٍ لكل ما فيه دون أدنى تحليل لحقيقة دعاويه وصحة معتقداته..

    وكما ذكرت فذلك الصنم الفكري استطاع أن يخترق عقلَ الكثيرين وأن يودع فيه رؤية لا تتجاوز حدوده أو تتعداها إلى ذلك التفكير الحرّ الرافض لكلّ بدهيات التسليم الرديء للغير الذي قد يكون حزباً أو فرقة أو جماعة..

    فالانتماء لا يكون سوى للدين الحنيف ومنهج رسوله الكريم والفخر لا يكون إلا بالانتساب إلى أمة أشرف الخلق والمرسلين..

    مرةً أخرى أخي أنس لا أملك سوى أن أحييك وأحيي ذلك القلم الفريد الذي تملكه..

    دمتَ بخير

    • وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

      بدوري يا أختي الكريمة لا أملك سوى أن أحيي فيك هذا الحس القرائي المرهف ، الواضح من ثنايا تعليقاتك التي تدل على فهم عميق للمكتوب ..

      يسرني كثيراً وجودك في مدونتي ، وأشكرك جزيل الشكر على هذا التعليق الرائع 🙂

      .

      كوني بخير ، ^_^

  6. تدوينة اكثر من رائعة و محتوى ثرى و مثمر

    شكرا جزيلا

  7. اجمل قصة قراتها فعلا


اترك رداً على vamprita إلغاء الرد

أنشئ موقعاً أو مدونة مجانية على ووردبريس.كوم.
Entries و تعليقات feeds.