عد​َّاء الطائرة الورقية – خالد حسيني

22/07/2022 عند 14:25 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

رواية: عدَّاء الطائرة الورقية

لمؤلفها: خالد حسيني

البلد: أفغانستان 🇦🇫

ترجمة: إيهاب عبد الحميد

صدرت عام: 2003

.

=====

ثمة في دنيا الأدب رواياتٌ لا تكاد تتوغَّل في قراءتها حتى تأخذ بمجامع لبِّك، فتتمنى لوهلةٍ لو أنك قرأتَها منذ زمنٍ طويل، ثم تُراجع الرأي فتحمد الله على أنك لم تقرأها إلا في لحظتك تلك لأنك فيها أدقُّ وعياً وأعلى قدرةً على التحليل والتذوق. ورواياتٌ في المقابل تتمنى لو أنك لم تفتحها ولم تضيِّع دقيقةً واحدةً من وقتك بين دفَّتيها. ونوعٌ ثالثٌ من الروايات يتركك متخبطاً بين الموقفين، مترنحاً بين الإعجاب الشديد ببعض جوانبها والحنق المرِّ على جوانب أخرى في طيَّاتها.

رواية “عدَّاء الطائرة الورقية” تنتمي إلى هذا الصنف الثالث، ورغم أنها لم تكن لقائي الأول بخالد حسيني إلا أنني قرأتُها بتدقيقٍ أكبر وانتباهٍ أعلى من روايته “ألف شمس مشرقة”، والتي قرأتُها قراءةً عابرةً منذ عدة سنوات، فلم يبق لديَّ من انطباعٍ حولها إلا أنها روايةٌ “متوسطة” بأحداث اجتماعية مثيرة، لكنها في نفس الوقت “مريبة” في معالجتها لموضوع المرأة من وجهة نظر “نسوية” رغم أن كاتبها رجل!

والآن مع هذا اللقاء الثاني بالكاتب، ومع مزيد من البحث والقراءة عن خلفياته والاطلاع على عدد من مراجعات القراء، أستطيع القول بأننا أمام رواية “دعائية” كُتبت لخدمة أجندة معينة، وأمام كاتب “مجنَّد” في الصفوف الأدبية لجيش يدافع عن قيم محددة وعن حضارة بعينها. على أننا لا نستعجل في عرض الخلاصة، كما أن ما ذُكر لا يبخس الرواية جوانبها الفنية والتقنية التي سأعرض ما تيسَّر منها في الفقرات التالية:

* يبدع الكاتب حين يكتب عما يعرف:

لا ينفصل العمل الأدبي عن التجربة الذاتية للمؤلف مهما أنكر المنكرون، وليس في هذا أيُّ اتهامٍ بالسيرة الذاتية ولا تشكيكٍ في المخيلة، إلا أن الكاتب حين ينطلق من بيئته التي عاش فيها، ومن الخطِّ الزمنيِّ الذي عاصره، فإن قلمه يتدفَّق مسترسلاً سيَّالاً بالتفاصيل التي تنفخ في العمل الأدبي روح الحياة، وعلى نحوٍ يوحي للقارئ بأن الكاتب يروي قصةً حدثت له بالأمس لا يحتاج لتذكُّرها أيَّ جهدٍ يُذكر. مثلُ هذا الامتياز مفقودٌ تماماً عند الكتَّاب الذين يرغمون أنفسهم على الكتابة عن أزمنةٍ لم يعيشوها وأمكنةٍ لم تطأها أقدامهم، فهم إذن يعتمدون اعتماداً كاملاً على البحث يوقعهم في سطوة “المعلومات”، وهي جهودٌ مضنيةٌ تُبذل بلا طائلٍ في أغلب الأحيان، لأن روح الحياة تظلُّ مفقودةً من العمل الأدبي، وتفاصيلُه تبقى منقولةً منحوتةً من المراجع الملفَّقة، فهي إذن ناقصةٌ مبتورةٌ فاقدةٌ للمصداقية، مفتقرةٌ لحرارة التذكُّر ودفء التجربة.

خالد حسيني هنا يكتب عن أفغانستان بلدِه، وفي فترةٍ تكاد تطابق الفترة التي عاشها، فعمره يماثل تقريباً عمر البطل، والهجرة إلى أمريكا قاسمٌ مشتركٌ بينهما، فلا عجب إذن أن تكون التفاصيل في الرواية شديدة التنوع والثراء نابضةً بالحياة، وحتى الخيال المنبثق من الذاكرة هو خيالٌ متينٌ مبنيٌّ على أساسٍ صلب، عصيٌّ على التهلهل والتناقض، يتكامل مع التجربة فيسدُّ نقصها ويملأ فراغها بمادة متجانسة معها، فيأتي العمل الأدبي لُحمةً متماسكةً تحقق أعلى درجات الإيهام بالواقع رغم طبيعته المتخيَّلة، ولا غرابة في ذلك فالخيال ابن الذاكرة، وبينهما حبل سُرِّيٌّ لا ينقطع.

* الرواية هي الإيقاع:

“تعلمتُ من الموسيقى الإيقاع والتجانس”. بهذه الكلمات البسيطة والعميقة في الآن نفسه لخَّص الكاتب الياباني هاروكي موراكامي جانباً من علاقة الأدب بالموسيقى، وهي علاقةٌ يصعب جداً الإمساك بها للاختلاف الكبير بين الفنَّين في أمور جوهرية أو تبدو كذلك. الموسيقى فنٌّ “صلبٌ” للغاية، عصيٌّ على حركة الإسالة التي أصابت بقية الفنون، لأن القطعة الموسيقية كانت ولا تزال وستظل متطلبةً لإيقاعٍ سمعيٍّ ثابتٍ لا يختلُّ، ولالتزام الملحِّن والعازف بمقامات موسيقية راسخة وصارمة لو اختلَّت فيها نغمةٌ واحدةٌ فسدت الجملة الموسيقية كلها، وأوقعت في الآذان صوتاً نشازاً ينفِّر السامعين. وحتى اختلاف سرعة الإيقاع (التيمبو Tempo) في المقطوعة الواحدة، إسراعاً أو إبطاءً، يجب أن يكون مدروساً بعناية بحيث يصير هو نفسه اختلافاً إيقاعياً بشكلٍ ما. في عالم الأدب لا يكون عنصر الإيقاع واضحاً وضوحَه في الموسيقى، وهو ما جعل فنَّ الرواية عرضةً للتذويب والإسالة المتمثلة في تيارات التجريب التي قد تبدأ بالبحث عن جمالياتٍ مبهمةٍ في إيقاعاتٍ غير مألوفة ثم تنتهي بتدمير فكرة الإيقاع نفسها ومساءلة جدوى الجمال من الأصل!

قد يكون من الصعب “استكشاف” مقامات أدبية واضحة المعالم على غرار المقامات الموسيقية، غير أن ثمة لدى الكاتب الحاذق والقارئ الماهر “عيناً أدبية” تلتقط نغمة الإيقاع تماماً كما تلتقطها “الأذن الموسيقية” عند العازف والسِّمِّيع. وما دام “الثبات” هو القيمة العليا للإيقاع فإن الكاتب يستشعر تلك القيمة في روايته منذ فصولها الأولى، بحيث لو “تورَّط” في إيقاع معين في تلك الفصول لم يسعه تغييره في الفصول اللاحقة إلا إن أعاد كتابة روايته من البداية.

يتكون الإيقاع الروائي من درجات محددة مدروسة من تسارع الوصف والسرد والحوار مع مراعاة التناوب بينهما، وأيُّ اختلال في ذلك التسارع سيوقع في “القِرِّيء” (على وزن “السِّمِّيع”) شعوراً منفِّراً بالنشاز تنبو عنه النفس.

تميَّزت رواية “عدَّاء الطائرة الورقية” بإيقاع ثابت مدروس بعناية، التيمبو فيها ثابتٌ بحيث تظلُّ تجربة قراءتها سلسةً بلا مطبَّاتٍ من الغلاف إلى الغلاف، تماماً كما تستمع لمقطوعة موسيقية بريئة من النشاز تعزفها أصابع موسيقيٍّ محترف.

* نمطٌ كلاسيكيٌّ في السرد وعرض التفاصيل:

تبدو الرواية في معمارها السردي كأنها تضرب بعرض الحائط كل هذه المدارس الأدبية الجديدة المعادية للسرد الخطي والإكثار من التفاصيل. صار السرد الخطي “موضة قديمة” توصف وصفاً قدحياً بـ “الكلاسيكية”، وأما التفاصيل الثرية فباتت توصف بـ “الدهون والشحوم” التي تُثقل العمل الروائي وتجعله يتضخَّم بغير طائل. ما دمنا نعيش في “عصر السرعة” وما دامت البصريات شائعةً مهيمنةً علينا بفضل الأجهزة الحديثة فما فائدة الوصف بالكلمات؟ ولماذا أكتب رواية من 500 صفحة ما دمتُ أستطيع تلخيصها في 100 صفحة فقط أعرض فيها زبدتها دون حشو ولا دهون؟

نلاحظ أن الكاتب لا يذعن في رواياته لهذه العقلية الأدبية الجديدة التي تتعصَّب لأنماط معينة على حساب أخرى لها وزنها في عالم الأدب، بل نجده وفياً للسرد الخطي الكلاسيكي دون ألاعيب وحذلقات تتحدى ذكاء القارئ. في “عدَّاء الطائرة الورقية” تقدَّم لك الأحداث مرتَّبةً على نحوٍ يتيح لك الاستمتاع بها دون أن تُتعب ذهنك في تركيب قطع متناثرة من الأحجية، ودون أن تشعر بذرةٍ واحدةٍ من الملل رغم ذلك. يُثبت هذا النوع من السرد قوَّته الخالدة وعلوَّه على المتغيرات الزمنية، وأيضاً قدرتَه على استيعاب أكبر قدر من الأشكال الإبداعية سواء على المستوى الجزئي أو الكلي.

وأما على مستوى التفاصيل فنجد الكاتب وفياً كذلك للمدرسة القديمة التي تعنى بعرض أكبر قدر ممكن منها، ما يتيح رسم أفضل صورةٍ ممكنةٍ في خيال القارئ، صورةٍ غنيةٍ بالألوان والأصوات تكاد تراها أمام عينيك وتسمع أصواتها بأذنيك. ولأن الكاتب هنا “يتحدث عما يعرف”، ولأن “الخيال ابن الذاكرة” كما قدمتُ آنفاً، فإن هذه الرواية ستظل ذخيرةً حيةً في يد المنتصرين للسرد الكلاسيكي وإثراء العمل الأدبي بأكبر قدر ممكن من التفاصيل (النهايات العصبية للرواية بتعبير أورهان باموك).

* ما هو زمنيٌّ وما يتجاوز الزمن:

ما الذي يجعل روايةً ما مستحقة للخلود الأدبي؟ وما فرق ما بين الرواية الإبداعية العالية والرواية التجارية الرخيصة؟ إنه بلا شكٍّ أمرٌ يتجاوز تقنيات الكتابة والمعمار السردي وجمالية اللغة ومهارات الوصف والحوار. إن ما يعطي الرواية قيمتها الحقيقية هو ما فيها من المعاني المتجاوزة للزمن.

لا مفرَّ بطبيعة الحال من أن تعالِج الرواية قضايا زمنيةً بوصفها نابعةً من كائنٍ بشريٍّ خاضعٍ لظروفٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ معينة، لكن القدرة على التجريد والترميز، والتطرقَ للمفاهيم الكونية والنفسية المطلقة، هو ما يجعل الرواية صالحةً لكل زمان ومكان، وهو ما يسمو بها من حضيض الروايات التجارية الهادفة للإثارة اللحظية إلى مصافِّ الأعمال الأدبية العظيمة التي تعالج الإنسان بوصفه قيمةً مطلقةً في تفاعله مع نفسه ومع المجتمع والكون.

في “عدَّاء الطائرة الورقية” نجد تزاوجاً عجيباً بين ما هو “زمنيٌّ” وما هو “متجاوزٌ للزمن”. ولو أردنا تقسيم محتوياتها بين هاتين الخانتين فإننا نجد في خانة “ما هو زمني” كل ما يتعلق بالأحداث المثيرة والمطاردات والقتالات والصراع المشوِّق، وكذا ما هو تأريخٌ لأفغانستان في كل ما يرتبط بوصف الأمكنة وأنماط الحياة وأفكار الناس وأزيائهم وعاداتهم وصراعاتهم الاجتماعية والطائفية، وأيضاً ما طرأ على المجتمع من التغيُّرات الجذرية بسبب الأحداث السياسية العاصفة… إلخ. وأما في خانة “ما هو متجاوزٌ للزمن” فإننا نضع المعالجة الإبداعية للكاتب لموضوع الضعف البشري والخيانة وتأنيب الضمير، وما تجسَّد في شخصية البطل من الرغبة الحارقة والسعي الدؤوب وراء التكفير الفالجاني (نسبةً إلى جان فالجان) عن ذنبٍ قديمٍ لا شهود عليه وخيانةٍ تعود لعهد الطفولة، صارت مع مرور السنوات والتقدم في العمر ضاربةً في القدم ولا أثر ملموساً لها في واقع الحياة.

هذا العمق في البناء النفسي الناضج لشخصية البطل المجسِّدة لنسبية الخير والشر، قابلته سطحيةٌ شديدةٌ في بناء شخصية آصف، الشرير الرئيسي في الرواية، والذي لا يعدو كونه شريراً نموذجياً أحادي البعد يمثِّل الشرَّ المطلق الذي لا تشوبه شائبةٌ من الخير مهما كانت خفية. ويبدو أن الأجندة التي يخدمها الكاتب واستهدافَه أكبر قدر ممكن من التشويه لحركة طالبان هو ما جعله يضحي بالعمق الأدبي المطلوب في عرض الشخصيات الشريرة، ويكتفي بجعل شرير روايته شخصيةً كرتونيةً مسطحةً بامتياز لا أبعاد لها على الإطلاق.

* التويستاتسلاح ذو حدين:

التويستات، منعطفات الأحداث، المفارقات… كلها أمورٌ لازمةٌ للفن القصصي بأنواعه المختلفة، بل إن القصة لا تكون قصةً حقاً إلا إن تضمنت شكلاً من أشكال “التويست” مهما كان بسيطاً وبدائياً، وإذا خلَت منه فهي مقالٌ أو نصٌّ أدبيٌّ أو لوحةٌ وصفيةٌ أو أي شيء آخر، لكنها ليست قصة.

والتويستات أنواعٌ تختلف باختلاف الأنماط الأدبية نفسها، فالتويست الذي نجده في روايات الإثارة والغموض والتحقيقات يختلف جذرياً عن الذي نجده في رواية اجتماعية أو نفسية أو رومانسية أو فلسفية، كما أن تعرُّض القارئ (أو مشاهد الأفلام) لتويستات قوية خارقة للعادة يسبِّب لديه نوعاً من الإدمان يجعله متطلباً لما هو أقوى وأكثر إبهاراً، ومن ثمَّ سينظر بعين النقص لكل تويست لا يرقى لتطلعاته، أو أقلَّ إبهاراً وصَدماً مما مرَّ به من تويستات سابقة.

جديرٌ بالذكر هنا أن حدثاً بسيطاً من أحداث الحياة اليومية قد يكون مادةً لـ “تويست” تُبنى عليه روايةٌ اجتماعيةٌ أو رومانسية، في حين أن الأمر يتطلب درجاتٍ عاليةً من الإبهار في روايات الإثارة والغموض، وبشكلٍ قد يضطرُّ الكاتب للخروج من منطق الحياة الواقعية والدخول في منطق الأعمال السينمائية المحكومة بزمن العرض وقواعد الكتابة الدرامية.

لا تخلو الحياة الواقعية من تويستات خاصة بها، ومنها ما هو قويٌّ جداً، لكنها في الحياة متناثرةٌ متباعدةٌ وكثيراً ما تكون غير مرئية، كلمات القدَر التي تنطق بها الأحداث فلا نعيرها سمعنا، وهنا يأتي الكاتب ليلتقط ما في الحياة وما في مصائر الناس من تويستات يغفل عنها الآخرون، ثم يُدخلها في بوتقته الإبداعية مازجاً إياها بخياله، مغيِّراً من طبيعتها وناقلاً لها من منطق الحياة المخفَّف إلى منطق الرواية المكثَّف، فتتخذ بذلك شكلاً جديداً هو تلفيقٌ لمجموعة ملاحظات ومصادفات وتأملات قدَرية ومصائر انتُزعت من رحابة الحياة وكُدِّست في رواية من بضع مئات من الصفحات أو فيلم من ساعتين. ولعل هذه الميزة هي من أبرز ما يتميَّز به الكاتب الحقيقي عن غيره من الكتَّاب السطحيين وعامة الناس.

في رواية “عدَّاء الطائرة الورقية” نجد عدداً من التويستات التي من شأنها أن تفاجئ القارئ وتبهره، غير أنها في الواقع من أبرز نقاط الضعف في الرواية لأنها جاءت ضعيفةً متكلفةً مهلهلة، وعتيقة الطراز جداً بشكلٍ جعل كثيرين يصفون الرواية بأنها “فيلم هندي”. لقد قرأ الناس اليوم روايات وشاهدوا أفلاماً بتويستات باهرة تُجحِظ العيون وتُفغِر الأفواه، ولذلك فلن يبهرهم بطبيعة الحال، وفي رواية من صنف الإثارة، أن يكتشفوا بأن شرير الكهولة هو نفسه شرير الطفولة، وأن صديق طفولة البطل هو أخوه لأبيه من علاقة غير شرعية… إلخ. حبكات قديمة (هندية) مستهلَكة يمكن أن تُعرض إن عُرضت على أنها أحداث عابرة وليست منعطفات مفصلية تروم إبهار القارئ.

ولعل هذا يطرح للمساءلة مسألة التويستات نفسَها وكيف أنها سلاحٌ ذو حدين، فالتويست إن كان صادماً أكثر مما ينبغي صار أشبه بالقنبلة التي تنفجر انفجاراً مدوياً لكن لمرة واحدة فقط، وهكذا يصير العمل قابلاً لقراءة وحيدة لا أكثر، غير مستحق لقراءة ثانية لأنه يصير بانكشاف التويست محروقاً تماماً. ومن جهة أخرى فإن الكاتب لو أراد أن يجعل روايته أقرب إلى منطق الحياة المخفَّف فإن التويستات فيها ستكون باهتةً غير مرئية تقريباً، ما قد يجعلها عرضةً للملل ولنفور القرَّاء منها لأن منعطفات أحداثها “لم تصدمهم” بما يكفي.

نحن اليوم نعيش في زمن التويستات بلا منازع، وقد انتقل هوس التويستات إلى الأدب من السينما في جملة ما انتقل إليه منها من تقنيات السيناريو والكتابة السينمائية، وهذا الانتقال يجعل كتابة روايات التشويق صعبةً أكثر فأكثر (سقف الإرضاء يرتفع باستمرار)، وأما الأنماط الروائية التي لا تعتمد بالضرورة على التويستات المبهرة (الروايات الاجتماعية والرومانسية والنفسية…إلخ) فهي عرضةٌ لمزيد من التراجع والاضمحلال.

* دعايةٌ أمريكيةٌ رخيصة:

نُشرت هذه الرواية في أمريكا وكُتبت في الأصل بالإنجليزية، وسرعان ما حظيت بنجاح مدوٍّ واتخذت مكانها ضمن روايات الأكثر مبيعاً والمترجمة لعدد هائل من اللغات. لا يخفى على القارئ المنصف أن الرواية وإن كانت احترافية في تقنيات كتابتها إلا أنها ليست تحفة أدبية، وأننا قد نجد بسهولة من الروايات ما يتفوَّق عليها بمراحل، لكننا حين نتسمَّع همسات الكاتب ونطَّلع على ما دسَّه في روايته من الدعاية الصريحة المباشرة لأمريكا فإن العجب يبطُل لانكشاف السبب.

خالد حسيني كاتبٌ تنكَّر لأصله وبلده وتعالى عليه، وصار بعد هجرته إلى “العالم الحر” ينظر إلى وطنه نظرة احتقار واشمئزاز تتماشى ومزاجَه الأمريكي الجديد. لقد كان الكاتب صريحاً إلى حدِّ الوقاحة في إعلان عبوديته التامة لأمريكا، وتبنِّي مبادئها ورؤيتها للعالم بكل تفاصيله، بل إنه لم يكلِّف نفسه عناء الغموض وسلوك المسالك الملتوية وإبقاء مجال للهروب نحو الأمام أو الخلف كما يفعل كثير من الكتاب المثيرين للجدل، بل لقد خطَّ في روايته عباراتٍ تمجيديةً مباشرةً لا تقبل التأويل للحياة الأمريكية، وهو ما جعل من الرواية حملةً دعائيةً (بروباغاندا) رخيصةً لم يسعني وأنا أقرؤها إلا أن أشعر بازدراءٍ عميقٍ يبلغ حدَّ الاحتقار لشخص الكاتب، احتقارٍ هو من جنس ما نشعر به تجاه كل من سفُلت نفسه وبلغت به الذِّلَّة حدَّ أن يركع لعدوِّه ويلعق حذاء جلَّاده.

* خاتمة:

قال إدواردو غاليانو: “أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر، أنا أطلب أن تجعلني أتبلَّل! فكِّر في الأمر، أيها الكاتب”.

لا شكَّ أن خالد حسيني في روايته هذه “يجعلك تتبلَّل” من قوة الوصف ورشاقة الحوار وثبات الإيقاع وغير ذلك من تقنيات الكتابة التي تجعل من “عدَّاء الطائرة الورقية” مدرسةً خصبةً للكتَّاب المبتدئين وحتى الأكثر تقدماً منهم. إن كنتَ تبحث عن رواية مشوِّقة أو فيلم إثارة مسلٍّ يسحبك إلى عوالمه فلا تشعر بمرور الوقت فهذه الرواية مناسبة لك. وإن كنت تبحث عن تأريخ للحياة الاجتماعية في أفغانستان خلال النصف الثاني من القرن العشرين ففي الرواية من ذلك ما قد يشبع فضولك. وأما إن كنت تبحث عن سبر أغوار النفس البشرية فليس إلا موضوع “تأنيب الضمير” و”التكفير عن الذنب”، وأما ما عدا ذلك من العمق الفكري وجدلية الدين وحركة طالبان فلن تجد للأسف إلا فيلماً هندياً مبتذلاً يردِّد ترديداً ببغائياً الخطاب الأمريكي المتعصِّب، ويمارس دعايةً أمريكيةً رخيصةً تسلُب من الرواية القسم الأكبر من قيمتها الأدبية ومصداقيتها الأخلاقية.

#أنس_سعيد_محمد

22/07/2022

ماكيت القاهرة – طارق إمام

29/04/2022 عند 14:28 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

رواية: ماكيت القاهرة

لمؤلفها: طارق إمام

البلد: مصر 🇪🇬

صدرت عام: 2020

.

(( عبثٌ مدروسٌ بعناية ))

=====

من الصعب الحديث عن هذه الرواية دون إفسادها على من لم يقرأها، كما يصعب أيضاً التوفيق بين المشاعر المتضاربة التي قد تنتاب القارئ أثناء إبحاره في عوالمها. وهي مشاعر قد انقسمت، من جهتي، بين الإعجاب الشديد بالحِرفية العالية في الكتابة وبناء العوالم السردية المتماسكة بدقة ميليمترية من جهة، وبين “عدم الارتياح” لما تتبطَّنه من إيحاءات فكرية وفلسفية تُوقع في النفس شعوراً بالخواء الكامل والانعدام التام للمعنى.

* في الجانب الفكري:

تشكِّل هذه الرواية ما يمكن أن نطلق عليه بحقٍّ “الرواية ما بعد الحداثية”، ولستُ أعني بهذا النعتِ ذلك المفهوم السائد والساذج الذي يقصُر “ما بعد الحداثة” على استخدام تقنيات التجريب السردي وكسر الأنماط التقليدية القديمة، وإنما أعني المفهوم الأكثر شمولاً، والمرتبط بانعدام اليقين وانهيار السرديات، والأيلولة إلى العدمية عبر طريق محفوفة بالعبث.

يدهشنا الكاتب منذ بداية الفصل الأول بعام 2045 الذي يُفترض أن تدور فيه الأحداث، وهو ما يقدح في القارئ انتظاراتٍ معينةً حول تصوُّر الكاتب للحياة في ذلك العام المستقبلي البعيد، ويوهم بشيء من “الخيال العلمي” الذي سرعان ما نكتشف أنه غير موجود، وأن الكاتب لم يورِّط نفسه في أية تصورات حول نمط حياة مستقبليٍّ مفترَض. نواصل القراءة ليتبين لنا أن عامل الزمن في الرواية فاقدٌ لكثافته ومعناه، وأن المكان الوحيد الثابت في الرواية، “جاليري شُغل كايرو”، هو مكانٌ مجرَّدٌ يقع في ما وراء الزمان والمكان، وما وراء المشاعر والأحاسيس، وما وراء الخير والشر.

ثمة في الأجواء العامة للجاليري، وفي شخصية المسز تحديداً، إيحاءٌ قويٌّ بما يمكن أن يصل إليه الإنسان المعاصر حين يبلغ أقاصي الوعي، ويمتلك مطلق السلطة، ويحوز جوامع المعرفة. هي صورةٌ كئيبةٌ متشائمةٌ لإنسانٍ بلغ المنتهى من كل شيء، فصار العالم بين يديه مفروشاً على رقعة تحت عدسة ميكروسكوب، يتأمله ويدرسه، ويحلله تحليلاً علمياً محايداً، ثم يلهو به ويلعب، ثم يدمِّره ببرود مطلق ماحياً كل شيء، وممهداً لانطلاقة جديدة لدورة العبث.

تدغدغ الرواية في قارئها كوامنه السادية، وتُغرقه في لذة التفرج على مشاهد الدمار الشامل الموحية بتحرر الإنسان من جميع أعبائه ومسؤولياته، فإذا بذلك الحلم الطفولي القديم يتحقق؛ أن يختفي كل شيء، وأن يقف الواحد منا وحيداً في عالمٍ ممحوٍّ لا يطالبه بشيءٍ ولا ينتظر منه شيئاً.

قديماً كانت الآداب والفنون تعالج ظاهرة الصراع بين الخير والشر (تباينٌ حادٌّ بين الأبيض والأسود)، ثم انتقلت بعد مراحلَ من النضج إلى الحديث عن نسبية الخير والشر (التوكيد على رمادية الحياة)، ثم “تجاوزت” النضج في عصر ما بعد الحداثة، فألغت المفهومين من الأساس، واجتثَّتهما من جذورهما، لتحلَّ محلَّهما فكرةٌ عدميةٌ تتطلع لإنهاء كل شيء، وتتوق لمشهدٍ يشبه ما وصفه موراكامي (الروائي الياباني من أصل مصري) في روايته “ما بعد الظلام”، حين أطلَّت إحدى الشخصيات من نافذة الغرفة لتجد مشهداً عديم الشكل واللون لا يمكن وصفه، أشبه بفكرة مجردة خالية من أي شكلٍ من أشكال التجسيد.

فكرةٌ كهذه يمكن أن نجدها عند “يوهان ليبرت” في مسلسل الأنيمي “وحش”، حين عبَّر عن رغبته النيتشوية في إحداث نهاية العالم، وأن يكون البشريَّ الأخيرَ الواقف على أطلال كل شيء. كما نجدها أيضاً عند “زيك ييغر” في أنيمي “هجوم العمالقة”، والذي بذل جهوداً عظيمة لتنفيذ خطته الرامية إلى حمل عشيرته على الانقراض بهدوء دافعاً إياهم نحو العدم. وأما في المسلسل الألماني Dark فقد كان “آدم” أكثر وضوحاً حين كشف عن مفهومه الخاص للجنة، وأنها ليست أكثر من ظلامٍ مطلَقٍ مستمرٍّ إلى الأبد.

إن كون الرواية مسليةً بخيالها الجامح وتقنياتها السردية الممتعة، لا يخفِّف ولو قليلاً من وطأة “الاكتئاب” المتغلغل في أعماقها، ولستُ أقصد بالاكتئاب حالةً نفسيةً يمرُّ بها الكاتب، وإنما أقصد اكتئاب البشرية قاطبةً حين تفقد إيمانها بأي شيء.

* في الجانب الفني:

أما على الجانب الفني فقد كلَّف الكاتب نفسه إبقاء القارئ في حالة من الدهشة المستمرة المتجددة، وقد نجح في ذلك نجاحاً نادراً ندرةَ روايات التشويق من ذوات الحجم الكبير، كما أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الكاتب يحتاج قدراً كبيراً من الجدية لكتابة عملٍ عبثي، ومن الصلابة لكتابة عملٍ يوهم بالسيولة، تماماً كما تحتاج المَشاهد الهزلية في الأفلام والمسلسلات إلى قدرٍ هائلٍ من الجدية في تنفيذها كي تحقق ما تصبو إليه من انتزاع الضحكة من أعماق المشاهد.

ينثر لنا الكاتب مفردات عالمه الروائي بتدريج مدروس وحنكة تستحق الإعجاب، بحيث يخبرنا أولاً أن الرواية خيالية، وأن في حيوات أبطالها ما يخرق الطبيعة، ثم يكشف لنا عبر انعدام الدهشة من خرق الطبيعة أن الرواية تدور في عالمٍ موازٍ له مقاييس خاصة وقواعد فيزيائية مستقلة. ثم يمضي فيوحي إلينا بأن التاريخ في الرواية تاريخٌ بديل، وأن أسماء المشاهير أسماءٌ مستعارة (تختلف قليلاً عن الأسماء الحقيقية)، وأنهم جميعاً ينتمون إلى بلدان أجنبية “من أصل مصري”، في إشارةٍ إلى أن القاهرة في الرواية تكثيفٌ رمزيٌّ للعالم العربي، بل وللعالم كلِّه.

ولا يتوقف الكاتب عند هذا الحدِّ بل يبرهن لنا على أن تفاصيل عالمه الروائي لم تستغرقه مُوقعةً إياه في الترهُّل السردي، بل تتكشَّف لنا، شيئاً فشيئاً، صورةٌ إطاريةٌ شاملةٌ تتضمَّن إيقاعاً منهجياً سار عليه الكاتب بمعرفةٍ كليةٍ ونياتٍ مسبقة، وقد تجلى ذلك في نوع من “القالب الموحَّد” الذي صُبَّت فيه سِيَر الشخصيات الثلاثة، ثم لتضاف إليهم أخيراً شخصية “مانجا” التي كانت أشبه بالكرزة التي توضع فوق الكعكة لتمنحها مظهرها المتناسق المكتمل.

وليس من السهل الإمساك بكافة تفاصيل ذلك “القالب الموحَّد” أو “الإيقاع المنهجي”، لا سيما في رواية ذات قابلية عالية للتقشير وتعدد مستويات التفسير، غير أننا نستطيع التقاط العناصر التالية التي هي للرواية كالأعمدة للبناء: شخصيةٌ ذات اسمٍ غريبٍ تكتشف في حياتها شيئاً خارقاً للطبيعة – تذهب الشخصية إلى جاليري شغل كايرو وتلتقي بالمسز – تكشف المسز عن قدرات عجائبية لا حدَّ لها تذكرنا بعوالم الأحلام (تغيير المسز لوجهها، ومعرفتها الكلية حتى بما يدور في نفس مُجالسِها، حدوث الشيء بمجرد التفكير فيه) – الكشف عن علاقة ما للشخصية بكتاب منسي عجرم – الكشف عن موهبة الشخصية ومشروعها الفني – أحاديث جدية وعميقة مع المسز حول المجال الفني والأدبي – استشهاداتٌ بأقوال فلان الفلاني الأجنبي من أصل مصري – الكشف عن اللوغو الخاص بالشخصية – اشتغال الشخصية على مشروعها الفني داخل الجاليري – الكشف عن التداخلات الزمنية والمكانية بين العالم الحقيقي خارج الجاليري والعوالم المقلَّدة داخله – يثبُت في النهاية أن تدمير الماكيت المقلَّد ينتج عنه تدميرٌ موازٍ للعالم الحقيقي، وأن داخل الماكيت المقلد جاليري آخر يحدث فيه نفس الشيء إلى ما لا نهاية…

يذكِّرنا هذا التداخل الحجمي في الرواية بالفيلم القصير Doodlebug الذي أخرجه كريستوفر نولان (المخرج البريطاني من أصل مصري) عام 1997، كما تذكِّرنا العجائبية المفرطة فيها بعوالم إبراهيم نصر الله (الروائي الفلسطيني من أصل مصري) في عددٍ من رواياته التجريبية مثل “شرفة الهذيان” وغيرها. بيد أن “شرفة الهذيان” تكاد تكون غير قابلة للقراءة لغياب العنصر القصصي في طياتها، ولإفراطها في العجائبية إلى درجة الهلوسة، وأما في “ماكيت القاهرة” فإن الكاتب لم يقطع “شعرة معاوية” مع العالم الواقعي، ومع قواعد السرد القصصي التي أبقت فيها على عنصر الحكاية المفعمة بتشويقٍ يشدُّ القارئ ويثير فضوله لمعرفة ما سيحدث في الفصول القادمة.

جديرٌ بالذكر أيضاً أن الكاتب أبان عن اطِّلاعٍ موسوعيٍّ ورؤيةٍ عميقةٍ في الآداب والفنون تجاوزت ظواهرها السطحية إلى فلسفاتها الكامنة، تجلى ذلك في الحوارات المرهقة، والممتعة جداً، التي جرت بين الشخصيات والمسز كلٌّ في فنِّه الذي شُغف به. لا يستطيع القارئ إلا أن يُعجَب بأحاديث الكاتب على لسان المسز حول اللغة وخفاياها ومكانة الصمت فيها، وحول فلسفة الفواصل والجمل الاعتراضية، وحول ماهية الرسم وقدراته التعبيرية، وحول جوانب الائتلاف والاختلاف بين الكتابة والصورة، والصعوبات التي تواجهها الكاميرا حين تروم نقل عملٍ أدبيٍّ إلى الشاشة. من المفاجئ أيضاً أن اطلاع الكاتب قد بلغ حتى المانغا اليابانية، ولعل هذه أول رواية عربية تحدِّثنا عن هذا الفن المجهول أدبياً، وعن فلسفة القصص المصورة والبالونات الحوارية، وعن حجم الصعوبات التي تواجه الرسام حين يريد خلق مُعادلٍ بصريٍّ لشخصيةٍ أو لمشهدٍ هو موضوع “تويست” مُرجَأ في العمل الأدبي… إلخ.

ولا يفوتني أن أختم بأكثر عناصر الرواية غموضاً وقابليةً لإثارة للجدل، وإن لم أكن قرأتُ إشارةً وافيةً لها في ما اطَّلعتُ عليه من مراجعاتٍ للرواية، وأعني هنا شخصية “منسي عجرم” وكتابه الغامض المليء بإيحاءاتٍ غريبةٍ حول كيانٍ مطلَقٍ ذي صفاتٍ شبه إلهية. لم أستطع أن أتخلص من الحضور القوي لرواية “شرفة الفردوس” لإبراهيم نصر الله، وتحديداً لشخصية “قاسم”، كلما قرأتُ مشهداً لكتاب “منسي عجرم”، وهو الكتاب الذي قد نقرأ عنه تلميحاتٍ تشير إلى أنه “كتابٌ سماويٌّ” له ما للكتب السماوية من شمولٍ ونفاذٍ وخطورة، حتى إن الناس يقدِّسونه وإن لم يقرؤوه بل ويقبِّلون غلافه المجلَّد. ثم حين يُكشف لنا عن بعض ما في الكتاب نعرف أنه شيءٌ أشمل من الكتب السماوية وأكثر خصوصيةً منها، وأنه أقرب ما يكون للوح المحفوظ الذي كُتبت فيه أقدار الناس التي لا رادَّ لها. فهل أكون موسوَساً جامح الخيال لو قلتُ بأن “منسي عجرم” هو النسخة الأكثر حداثةً لـ “قاسم” في “شرفة الفردوس”، ولـ “الجبلاوي” في “أولاد حارتنا” (روايةٌ لنجيب محظوظ، الروائي المصري من أصل مصري)؟!

* خاتمة:

مهما يكن من انتقادٍ قد نوجِّهه للرواية بسبب نزعتها العدمية، أو فجاجة بعض مشاهدها الإباحية، أو ما يمكن أن يُشتبَه في كونه تجديفاً عقائدياً، إلا أنها من حيث الصِّنعة الأدبية تحفةٌ صُنعت على مهل، ونضجت على نارٍ هادئة، وأبدعتها يدٌ ماهرةٌ لكاتبٍ ذي خيالٍ خصبٍ مدرَّبٍ جيداً. وهو إذ يعرف ذلك عن نفسه فقد واظب على تذكير القارئ به في كل صفحة، وبأنه لم يترك في تفاصيل عمله صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، وأنه قادر على أن يذكِّر القارئ في أية صفحةٍ لاحقةٍ (ولو في نهاية الرواية) بتفصيلٍ هامشيٍّ صغيرٍ ذُكر بشكلٍ عابرٍ في صفحة سابقة (ولو في بداية الرواية).

هكذا إذن فليكن الاشتغال الروائي الجاد، وهكذا فلتطفُ على السطح، عن جدارة واستحقاق، مثل هذه الرواية الاحترافية التي أعادت الاعتبار للأدب المصري الحديث، بعد أن غرق أو كاد في طوفان الرداءة الذي يتحمَّل وزرَه كتَّاب الاستسهال الأدبي وناشروه.

#أنس_سعيد_محمد  

28/04/2022

الأنمي وأثره في الجيل العربي – حيدر محمد الكعبي

11/03/2022 عند 11:49 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

كتاب: الأنمي وأثره في الجيل العربي

تأليف: حيدر محمد الكعبي

البلد: العراق 🇮🇶

صدر عام: 2022

.

=====

* شيءٌ من ذكريات الماضي:

هذا الكتاب جزءٌ من سلسلة كتبٍ صادرةٍ عن المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية التابع للنجف، وعنوانها “سلسلة الاختراق الثقافي”، وقد أرسله إليَّ صديقٌ كريمٌ لما ظنَّ من أن موضوعه قد يهمُّني، وهو كذلك.

أعادتني سطور الكتاب إلى سنوات عديدة خلت، إلى بدايات هذا القرن حين دخلتْ بيوتنا أجهزة الاستقبال الرقمية (النيميريك) ناقلةً إيانا من سجن القنوات المحلية البائسة إلى فضاءٍ لا نهاية له من القنوات العربية والأجنبية، وكانت قناة “سبيستون” واحدةً من القنوات التي أثارت اهتمامي بشكل خاص، لأنها كانت تتيح لنا مشاهدة رسوم متحركة تذكِّرنا بطفولتنا الأولى، ولأنها أيضاً تعرض أعمالاً جديدةً كانت تبهر أبصارنا بما وصلت إليه تلك الصناعة من تطور في الرسم والتحريك والإخراج.

كنتُ في المرحلة الثانوية آنذاك، وكنتُ أشاهد المسلسلات خلسةً مع عدد قليل من زملائي (كان يُفترض أننا آنذاك أكبر من مشاهدة الرسوم المتحركة!)، وكنتُ أكثرهم اهتماماً بالجوانب الإنتاجية لتلك المسلسلات، وأكثرهم تعجُّباً وانبهاراً من فكرة أن كل حركة بسيطة مدَّتُها ثوان قليلة تتطلب عشرات من الرسوم المتتالية التي يتمُّ عرضها تباعاً بسرعة معينة لإحداث تأثير الحركة. كيف يتصوَّر العقل البشري جهوداً جبارة كتلك؟ وأيَّ عزيمة هائلة تلك التي تدفع المنتجين إلى بذل تلك الجهود العظيمة العصيَّة على التخيل؟ هذا دون الحديث عن الخلفيات والتلوين اليدوي والمعالجات الحاسوبية والموسيقى التصويرية والدبلجة والإخراج… كنتُ أرى في فنِّ الرسوم المتحركة كميةً هائلةً من الفنِّ الخالص يستحيل أن تهان بتلك السهولة، وأن تُعَدَّ مجرد “رسوم أطفال” تناسب فقط من هم في المرحلة الابتدائية وما قبلها. وهذا طبعاً دون الحديث عن المواضيع الفلسفية والقصص المتشابكة والشخصيات المركَّبة التي هي أكثر تعقيداً بكثير من مستوى فهم الأطفال بل وحتى البالغين في كثير من الأحيان.

ثم جاءت مرحلة الإنترنت، وهناك وجدتُ “جنَّتي” الخاصة في المنتديات العربية التي تضمُّ محبي هذا الفنِّ من مختلف بلدان العالم العربي ومن جميع الأعمار. كنا أشبه بجمعيات سرية تتشارك اهتماماً مشتركاً تخفيه عن المجتمع، وكانت تجمعنا نقاشات معمقة وتحليلات عالية المستوى تطوَّرت في تضاعيفها لغةُ تخاطبٍ خاصةٌ لا يفهمها غيرنا. وكنا مع ذلك نتسلَّى بالآراء الواردة من خارج عالمنا، ونقرأ ضاحكين مستهزئين المقالات التي تُكتب حول “تأثير الرسوم المتحركة على الأطفال” والتي تدعو إلى أخذ الحذر منها. وحين صدرت فتوى دينية تحرِّم مشاهدة مسلسل “مذكرة الموت Death Note” ازددنا يقيناً بأن هناك صنفين من الناس: من هم داخل عالم الأنيمي ومن هم خارجه، وليست بين هذين الصنفين أية أرضية مشتركة أو لغة تخاطب ممكنة.

لكن الزمن يمضي والعمر يتقدم، ونحن الذين كنا شباباً في بدايات العشرينيات سرعان ما سنتجاوز الثلاثين بل ونبلغ الأربعين وما بعدها. إذن فإننا على موعد في السنوات القادمة مع جيلٍ من الآباء والأمهات يعرف حقاً ما هو الأنيمي الياباني ويملك أدوات تذوُّقه ويتكلم لغته الخاصة ويعرف المصطلحات الفنية المتعلقة به، فهل سيأتي يوم نقرأ فيه دراسات نقدية جادة من أناس يعرفون حقاً ما يتكلمون عنه؟

* أين تتجلى أهمية هذا الكتاب؟

قد يعطي عنوان الكتاب انطباعاً بأنه لا يختلف عن تلك المقالات القديمة الساذجة إلى حدٍّ يثير الشفقة، لكن تصفُّح فهرس الكتاب يشير إلى أنه انطباعٌ كاذب، وأن المؤلف إنما هو واحدٌ منا، شخصٌ ينتمي إلى عالم الأنيمي وقادمٌ من داخله وليس من الخارج، شخصٌ أمضى سنواتٍ من عمره متابعاً لهذا الفنِّ مستمتعاً به، ثم بلغ من السنِّ والنضج ما أهَّله ليكتب عنه دراسة نقدية موضوعية مبنية على معرفة عميقة بتفاصيل الفن، وليس على تصورات ذهنية وهمية من أناس مولعين بنظريات المؤامرة، وليس في حصيلتهم أي معلومة صحيحة عن الفن الذي يتحدثون عنه ويحذِّرون منه.

فهنا إذن تتجلى أهمية هذا الكتاب؛ في كونه إيذاناً ببلوغ ذلك اليوم الذين كان منتظَراً منذ ربع قرن أو أكثر، يومٍ يشير فيه المثقف العربي إلى جهة الشرق، ويكشف لنا عن الأسرار الكامنة (وحتى المخاطر أيضاً) في فنٍّ عظيم بالغ الخصوبة والثراء، ومُساءٍ تقديرُه بل ومجهولٍ تماماً حتى عند أكثر المثقفين العرب موسوعية في الأجيال السابقة (هؤلاء اقتصر نقدهم في الغالب على الفنون القادمة من الغرب وأمريكا، مع جهلٍ تامٍّ بالأنيمي الياباني. عبد الوهاب المسيري مثلاً تحدث في رحلته الفكرية عن توم وجيري رابطاً إياه بالداروينية الاجتماعية، وأحمد خالد توفيق في أحد أعداد سلسلته “فانتازيا” تحدث عن “بطُّوط”، ويظهر أن هذه الأعمال الكرتونية هي منتهى علمهم بهذا الميدان، وأنهم كانوا في عمىً كاملٍ عن رؤية الأنيمي الياباني الذي كان ليكون مادةً شديدةً الخصوبة لتحليلاتهم الفكرية وأعمالهم الأدبية).

ولن أطيل في عرض محتويات الكتاب فهو كتابٌ صغيرٌ يمكن أن يُقرأ في جلسة، لكن الذي دلَّ في الكتاب على أن المؤلف قادمٌ “من الداخل” هو عرضُه الدقيق للمصطلحات الفنية المتعلقة بالأنيمي، والتي لا يعرفها إلا الراسخون في الفن، وأيضاً إلمامُه بأهمِّ المواقع والقنوات المعاصرة العارضة للحلقات المترجمة والتحليلات المعمَّقة، وكذا إشارتُه الطريفة إلى الغضب الشديد لمحبي الأنيمي حين توصف الرسوم اليابانية بأنها “كرتون”، فرغم أن هذه التسمية صحيحة لغوياً وقاموسياً، إلا أن الاصطلاح يرفضها تماماً، فقد استقر عند أهل الفنِّ التفريق الحادُّ بين كلمتي “كرتون” و”أنيمي”؛ الأولى تعني الرسوم الأمريكية والغربية وغير اليابانية عموماً، والثانية تعني الرسوم اليابانية حصراً، والويل لمن يخلط بين المصطلحين! ولا أنسى كذلك تخصيص الكاتب فقرةً للحديث عن “إيجابيات الأنيمي”، وهي حركةٌ غير مألوفة وتدلُّ على مدى التفتُّح والإنصاف والقدرة على الموازنة ورؤية الجوانب المشرقة للأشياء.

* تصويب خطأ في التسلسل الزمني:

أحسن الكاتبُ في عرضه الموضوعي لمراحل انتشار الأنيمي في عالمنا العربي، مقسماً إياها إلى ثلاث مراحل رئيسية:

– المرحلة الأولى: ما كان يُعرض في القنوات المحلية (من السبعينيات حتى أواخر التسعينيات).

– المرحلة الثانية: الأعمال المدبلجة على قناة سبيستون (من عام 2000 حتى عام 2010).

– المرحلة الثالثة: الأعمال المترجمة على الإنترنت (من 2010 حتى اليوم).

أخطأ الكاتب هنا في المرحلة الثالثة التي جعلها تبدأ من عام 2010، وبصفتي “شاهداً على العصر” فإني أقول بأن المرحلتين الثانية والثالثة متزامنتان تقريباً، وأن أول من ترجم الأنيمي إلى العربية هو الإماراتي محمد شريف الأنصاري، وكان ذلك عام 2001 حين افتتح منتداه “مسومس msoms” المستمرِّ نشاطُه حتى اليوم.

فالترجمة إذن قد انطلقت عام 2001، وأنا شخصياً قد ترجمتُ مسلسل “القناص” كاملاً عام 2006، وكنتُ آنذاك سائراً على خطى من سبقوني، متتلمذاً على أيديهم ومتعلماً من دروسهم.

* إضافةً إلى ما ورد في الكتاب:

أغتنم هذه الفرصة لأدفع بمحتوى الكتاب إلى نقطة أعمق من التحليل، ولأطرح التساؤل الجوهري الذي لم يتطرَّق له الكتاب بما يكفي: لماذا يسيء العرب تقدير فنِّ الأنيمي الياباني؟ وكيف استقرَّ في أذهانهم أنه مجرد رسوم أطفال؟

قد يقول قائلٌ بأن المسؤول عن ذلك هو شركات الدبلجة والقنوات التلفزية التي كانت تعرض الرسوم في الفقرات المخصصة للأطفال. لكن هذا ليس جواباً كاملاً لأن السؤال يشمل شركات الدبلجة نفسها، ولماذا عمدت إلى توجيه تلك الرسوم (على اختلاف تصنيفاتها) إلى الأطفال عبر مقصِّ الرقابة الصارم؟

أعتقد -والله أعلم- أن الجواب كامنٌ في بنية العقل العربي في زمن ما قبل العولمة، وأنتقل هنا لشرح فكرتي إلى عالم النقد الأدبي، فقد قرأتُ في مكان ما تفسيراً لاختلاف الظاهرة الشعرية بين العرب والغرب، وكان تفسيراً مبنياً على البيئة الطبيعية أولاً وقبل كل شيء. يعيش الإنسان العربي في بيئة صحراوية تشكَّل ذهنُه على وَفقها، والبيئة الصحراوية تعني السماء الزرقاء والشمس الساطعة ووضوح الرؤية ونصوع الألوان، لذلك كان الشعر العربي مبنياً على الوضوح إلى حدِّ الفجاجة أحياناً، نابذاً للغموض والضبابية. وأما الإنسان الغربي فبيئتُه الضبابُ والثلوجُ والرؤيةُ الضعيفة، لذلك نشأ في الشعر الغربي الغموضُ والرمزُ والإبهام.

ولقد أشار إلى ذلك عبد الفتاح كيليطو في أحد كتبه، حين قال بأن العربي النموذجي لن يهتمَّ بقصتك حقَّ الاهتمام إلا إن أكَّدتَ له أنها واقعية، فهو يهتمُّ بما حدث فعلاً، وأما القصص المتخيَّلة فلا يهتمُّ بها إلا على سبيل التسلية أو الموعظة. وليجرِّب أحدنا أن يقول لإنسان عربي نموذجي أن لديه قصةً مثيرة، سيُقبل عليك العربي بجماع حواسِّه المتحفزة ما ظنَّ أن قصتك حدثت فعلاً، فإذا ما أخبرتَه بأنها “مجرد قصة خيالية” فسيفقد جلَّ حماسته للاستماع، ولن يصغي إليك إلا بربع اهتمام وعلى سبيل المجاملة لا أكثر.

نلاحظ أيضاً انطباق هذا الأمر على ترشيحات الأفلام، فما زالت عبارة “فيلم مبني على أحداث حقيقية” هي أفضل دعاية ممكنة للمشاهد العربي، وأما متوسطو الثقافة وضعافها فعادةً ما يشعرون بالحرج وحتى تأنيب الضمير إذا شاهدوا فيلماً خيالياً! وأنا أعرف عدداً من الأشخاص إذا أرادوا ترشيح فيلم لي قالوا: “فيلم رائع استمتعت به، أنصحك بمشاهدته”. ثم يواصلون بنبرة خافتة مفعمة بالحرج: “رغم أن فيه بعض الخيال… فيه أشياء خيالية لكنه جميل رغم ذلك”. فانظروا هنا كيف يَعُدُّ العربيُّ الخيالَ “عيباً” في العمل الفني، وأن مشاهدة الفيلم الخيالي تنازلٌ منه وتسامحٌ من لدنه مع عملٍ فنيٍّ يراه مستخفاً بعقله.

إن علاقة الغرب بالخيال تختلف جذرياً عن علاقة العرب به، فالإنسان الغربي متصالحٌ تماماً مع جهازه التخيُّلي، يبني فنونه عليه دون حرج، ويتقبلها المجتمع منه دون غضاضة، ولا يرى في كون العمل خيالياً إهانةً لعقله لأنه -ببساطة- يعرف أنه خيالي، ويدرك ذلك الاتفاق المضمَر بين الفنان والمتلقي بأن الموضوع الفني ثمرة خيال خصب، وأي تذوُّقٍ أو نقدٍ إنما هو مبنيٌّ على هذا الأساس. وأما الإنسان العربيُّ فلم يبلغ بعدُ من النضج الفني ما يؤهل ذائقته للتصالح الكامل مع الخيال، ورغم أنه قد حقق بفضل العولمة تقدماً لافتاً في هذا المجال إلا أنه غير كافٍ حتى الآن، وما زالت الفئة الممتازة من العرب المتصالحين مع الفنون الخيالية قليلةً ومحصورة، ومغمورةً في طوفان الاعتياديين من ضيقي الأفق، والذين لا يستوعبون معنى الخيال ويحتقرونه لجهلهم به وعدم إدراكهم لقيمته الفنية العالية. 

لا غرابة إذن أن تنشأ هذه الهوة السحيقة بين الإنسان العربي وبين فنٍّ يابانيٍّ مبنيٍّ أساساً على التخيُّل، وإذا كان العربي قد تقبَّل بعض الشيء الأعمال الغربية الخيالية فلأنها رغم خياليتها مبنيةٌ على ممثلين من لحم ودم، وتعبِّر في مضامينها عن الثقافة الغربية المادية الرافضة لكل ما هو روحي، بل المنكرة لوجود الروح من الأساس. وأما فن الأنيمي الياباني فشخصياته ليست من لحم ودم بل مرسومةٌ على الورق، كما أنه يعبِّر عن الثقافة اليابانية المؤمنة بوجود القوى الروحية، لذلك نجد كثيراً من قصص الأنيمي الياباني مبنيةً على عقيدة تناسخ الأرواح، وعلى المبادئ الأخلاقية المقتبسة من الديانات الشرقية، وعلى المبالغات المأخوذة من فنونهم القتالية التي تستخرج من جسم الإنسان طاقاته الداخلية الدفينة. كل هذه وغيرها أمور مفقودة كلياً عند الغرب، ولا نجدها في أفلامهم إلا بشكل مشوَّه، وهي وإن كانت أكثر قرباً من الشخصية العربية المؤمنة بالغيب إلا أن موقف الإنسان العربي من الخيال يقف سداً منيعاً ضد تقبُّله لها وتذوُّقه إياها.

فهذه إذن محاولةُ تفسيرٍ تروم الإشارة إلى أصل الظاهرة، وإلا فليست هناك أية رابطة منطقية بين “الرسم” و”الطفولة” تجعلهما متلازمين بالضرورة، وإلا كان علينا أن نعد “الموناليزا” لوحةً موجهةً للأطفال لأنها “مرسومة”!

ولعل من الطريف (والمأساوي أيضاً) أن ينبذ الإنسان العربي فناً يابانياً مليئاً بالتعقيد وأكبر بكثير من قدرته على الاستيعاب لأنه يراه “للأطفال”، ويراه للأطفال لأنه “خيالي” ولأنه “مرسوم”، ثم حين ترى ما يشاهده ذلك الإنسان تُفاجأ بأن قائمته مليئة بالأفلام التجارية السطحية الرخيصة، العربية والغربية، ويراها موجهة “للكبار” وتلائم سنه بلا حرج!

إننا قد ندخل إلى معرضٍ فنيٍّ فنقف دقائق نتأمل لوحةً مرسومةً لمنظر طبيعي، ونستمع لأغنية أو مقطوعة موسيقية، ونقرأ رواية فنتخيل شخوصها، لكننا حين نشاهد الأنيمي الياباني نغرق في بحر زاخر من تلك الفنون كلها وأكثر منها بكثير… ليس في الأنيمي لوحةٌ فنيةٌ واحدةٌ بل في كل لقطة من لقطاته خلفيةٌ مرسومةٌ بعناية وملونةٌ بإتقان (كل خلفية في أفلام استوديو جيبلي لوحة فنية قائمة بذاتها)، وليس فيه مقطوعةٌ موسيقيةٌ واحدةٌ بل في كل لقطة موسيقى تصويريةٌ مختلفةٌ تماماً، وليس فيه شخصياتٌ روائيةٌ حبريةٌ أو ممثلون يتكلَّفون الماكياج والملابس بل شخصياتٌ متفردةٌ مرسومةٌ بعناية وبمواصفات شكلية لا تتكرر أبداً. وأما القصص والمواضيع فما من موضوع أو أسلوب سردي نجده في الأفلام الغربية الحديثة إلا وقد سبق الأنيمي إليه منذ سنوات عديدة. نعم إن في الأنيمي ما هو أكثر إثارةً من هيتشكوك وتلاعباً بالخطوط السردية من نولان، وفيه خيالٌ أكثر جموحاً بكثير من أقصى ما وصلت إليه المخيِّلة الأمريكية الهوليودية حتى الآن. وأما التجريب السردي، والمواضيع الفكرية والفلسفية، والمعضلات الأخلاقية المعقدة، فإني كلما قرأتُ انبهاراً ما بفتحٍ غربيٍّ جديد في هذا المجال إلا وتذكرتُ أني رأيتُ مثل ذلك وأفضل منه في أنيميات صدرت منذ عقود.

ولست أقصد بهذا الكلام مدح الأنيمي الياباني، بل إني أشير إلى أهمية تلك الصناعة ومدى حجمها وعمقها، وإلا فهي أيضاً تنطوي على مخاطرَ جمَّةٍ مغفولٍ عنها، فما نجده في الفنون الغربية الحديثة من نزعات عبثية وعدمية موجودٌ أيضاً في الأنيمي وبشكل أكثر عمقاً وخطورة، ومن يتأمل مثلاً قصة مسلسل “القناص Hunter X Hunter” أو “هجوم العمالقة Attack on Titan” فسيجد في حبكاتها القصصية وشخصياتها من العجائب ما سيتصاغر أمامه ما نراه في الأفلام والمسلسلات الغربية.

* خاتمة:

أعتبر هذا الكتاب خطوةً أولى وبادرة خير، ومقدمةً لتحليلات مستقبلية أكثر عمقاً، وما هدفتُ إليه من خلال هذه المراجعة المتواضعة أن أدعو القارئ العربي الكريم، والذي لا يزال متأثراً بأفكار نمطية قديمة، أن ينظر بشكل أكثر جدية إلى ذلك الفن القادم من اليابان، وأن يطرح عنه فكرة أنه مجرد “رسوم أطفال”، وأن يتصالح مع الخيال والأعمال الفنية الخيالية. هكذا فقط سيفتح حواسَّه لمذاقاتٍ فنيةٍ جديدةٍ شديدة الإمتاع، وسيفتح عقله كذلك لإدراكٍ أكثر عمقاً لما تشتمل عليه تلك الفنون من الإيجابيات والمخاطر، ولصورةٍ أكثر واقعيةً وصدقاً لتوازن القوى الفنية المؤثرة في العالم، والتي تشكِّل شئنا أم أبينا جانباً لا يستهان به من الوعي والثقافة وحتى السلوك…

#أنس_سعيد_محمد

11/03/2022

وهم الثوابت – عادل مصطفى

06/11/2021 عند 19:01 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

كتاب: وهم الثوابت

لمؤلفه: عادل مصطفى

البلد: مصر 🇪🇬

صدر عام: 2017

.

====

بعنوان يبدو صادماً للقارئ ينفي الدكتور عادل مصطفى وجود ما نسميه بـ “الثوابت”، وعلى غرار كتابيه “المغالطات المنطقية” و”الحنين إلى الخرافة” يضع المؤلف يده على خللٍ مكينٍ في بُنانا التفكيرية، منطلقاً من تنظيره الفلسفي ومنتهياً بآثاره الملموسة على أرض الواقع.

ليس هذا الكتاب إذن كتاب أفكار مجردةٍ كما قد يبدو، بل إنه يمسُّ شيئاً دفيناً في عمق نماذجنا الإدراكية، ويُهيب بنا أن نعيد النظر في كل ما ظننَّاه من قبلُ رواسخ ثابتة، ومن ثمَّ نرى العالم بمنظور مغاير تماماً بحيث يتبطَّن وعيُنا بالأشياء حقيقتَها المتغيرة، وأنْ ليس لها ماهيةٌ محددةٌ إلا ما تخلعه عليها حاجاتنا التصنيفية، وأنْ ليس ثمة حدودٌ فاصلةٌ بين الألوان بل هي أطيافٌ متدرجةٌ بحيث يصير كل تحديدٍ لنقطة فصلٍ بين اللونين اجتهاداً شخصياً فحسب، غير متعلقٍ بأية بحقيقةٍ مطلقةٍ يستحيل نفيها. 

إنها “نزعة الماهية” أو طرائق “التفكير الماهُوِي” التي سدَّد لها الكاتب سهام نقده. بأسلوبٍ أدبيٍّ رصينٍ ومنهجٍ علميٍّ حصيفٍ عرَّف لنا الكاتب “الإنسان الماهُوي” بأنه شخصٌ ينظر إلى كل شيء على أنه مثولٌ لطبيعة محددة ثابتة لا تمتزج بغيرها ولا تلتئم بسواها. ويعرِّف لنا “نزعة الماهية” بأنها الرأي القائل بأن لكل صنفٍ من الكيانات مجموعةً من الخواص لا بد لكل فردٍ من أفراد هذا الصنف أن يمتلكها كي يندرج تحت هذا الصنف. ثم أكَّد لنا على أن نزعة الماهية هي شيءٌ مدموغٌ في جِبلَّتنا الإنسانية، وأنه لا فكاك للإنسان منها لأنها ضروريةٌ لإدراكه لمحيطه وتعامله معه، فهي إذن خطأ ضروري لنا كالماء والهواء، وخطأ معرفي مفيد يتبطَّن الإدراك في معظمه، وخطأ محتوم لأنه مبيَّت في صميم جهازنا الإدراكي نفسه.

على أن المشكلة تبدأ حين تتجاوز نزعاتنا الماهية حدودها المطلوبة، وتنتقل من كونها أداةً تصنيفيةً مؤقتةً صُمِّمت لتلائم احتياجاتٍ معينةً إلى أن تصير منهج تفكير ضيقٍ يتجاهل الطبيعة المتغيرة للأشياء، وينظر إلى كل الظواهر على أنها ثابتةٌ منفصلةٌ عن محيطها، وعلى أن خصائصها الثانوية هي خصائصُ أوليةٌ تشكِّل جوهر كينونتها.

يرى الكاتب أن النزعة الماهية قديمةٌ في تاريخ البشرية، وأنها استتبَّت ورانت على العقل البشري منذ دفع أفلاطون بنظريته في المُثُل وقفَّى عليه أرسطو بنظريته في التعريف، وهو ما عاق العقل عن التصور السليم لأشياء كثيرة، وعطَّل كثيراً من العلوم (الطبيعية والإنسانية) التي لم تنطلق انطلاقةً حقيقيةً إلا بعد قرابة ألفي عام، حين بدأ العقل البشري يتحرَّر، أخيراً، من غماماته الماهوية التي طالما غشَّته بالأوهام.

ثم يمضي الكاتب فيقول بأن خطورة التفكير الماهُوي غير مقتصرةٍ فحسب على تعطيل العلوم، بل إننا نجدها كامنةً وراء بعضٍ من أفظع ويلات تاريخنا البشري، وهو ما يجعل من دراسة هذه الظاهرة موضوعاً حيوياً لصيقاً بوقائع الحياة، وليس مجرد تنظيراتٍ فلسفيةٍ تليق بالأرائك الوثيرة. وأسوق هنا بعض الأمثلة التي عرَض لها الكتاب لمواضيع طالما تأثرت سلباً بالنزعات الماهُوية:

في علم البيولوجيا: يرى الكاتب أن نظرية دارون في تطور الأنواع ثورةٌ عظمى على التفكير الماهُوي، وأن تأخر اكتشاف التطور عائدٌ إلى أننا أُشربنا نزعاتنا الماهوية التي حملتنا على افتراض نماذج أفلاطونية ثابتة للأحياء، معلقةٍ هناك في فضاء تصوُّري، وهو ما حال بيننا وبين أن نتصور الكائنات الحية على أنها حلقات في سلسلة تطورية ممتدة على آلاف السنين، وأنه ليس ثمة نموذجٌ قياسي يمثل ماهيةً ثابتةً لأي كائن حي.

في علم الجينات: يشير الكاتب إلى أن ثمة حملةً إعلاميةً مغرضة، مشحونةً بالمبالغات الدعائية، تهدف إلى تضخيم دور الجينات في تشكيل هويتنا ومصيرنا، وأننا ما إن نتلقَّف معلومة -ولو كانت غير موثوقة- حول الصفات الجينية حتى تشرئبَّ نزعاتنا الماهوية الدفينة، دافعةً إيانا نحو التسليم بأن مصيرنا محتومٌ في جيناتنا، لنجد أنفسنا وقد وقعنا فريسة معتقداتٍ جبريةٍ تنفي وجود إرادةٍ حرةٍ للإنسان.

الماهوية اللغوية: يخبرنا الكاتب أن لغتنا العربية من أكثر اللغات التي تضرَّرت بالتفكير الماهُوي، والذي يَفترض أنها لغةٌ توقيفيةٌ منزَّلة، تامة منتهية، وأن ثمة روابط طبيعيةً بين الدال والمدلول، ومن ثمَّ وقع تجاهلٌ تامٌّ للطبيعة الاصطلاحية للغة، نجم عنه رفضٌ قاطعٌ لتطويرها لتتلاءم مع حاجيات التواصل المتجددة، وما التنطُّع النحوي والنقدي الذي تعاني منه حياتنا الأدبية إلا تمثُّلٌ لماهُوية لغوية راسخة.

تقسيم الاضطرابات النفسية: يبيِّن الكاتب كيف أننا كثيراً ما ننخدع بالتصنيف في عمومه، ونتوهَّم أن فئاتنا التصنيفية تمسي جزءاً من ماهية الأشياء المصنَّفة، وأن الطب النفسي كثيراً ما يقع في هذا المنزلق حين تقوده أعراض معينة للتأشير على خانات تصنيفية قد لا تعبِّر عن حقيقة المرض بالضرورة.

الحروب العنصرية: النزعات العنصرية التي أقيمت على أساسها سياسات ظالمة وأريقت بسببها دماء كثيرة، ما هي إلا نتيجة تفكير ماهُوي يفترض حقيقةً ثابتةً في الانتماء العرقي، والحق أن من المستحيل وضعُ حدود للهوية العرقية إذ نحن جميعاً “مخلَّطون” إلى حد ما، واشتراكُنا في الأصل الإنساني مقدَّم على كل هوية عرقية غالباً ما يكون نقاؤها موهوماً.

الأخلاقيات الطبية: يتساءل الكاتب حول أثر الماهُوية في قضايا الإجهاض والقتل الرحيم، فما هي حدود الحياة والموت لدى المصاب بحادثٍ أدَّى إلى موت دماغه؟ وفي أية لحظة يصير الجنين شخصاً متمتعاً بحق الحياة؟ وهل هناك أساساً لحظةٌ كهذه؟

حقٌّ علينا إذن، على ضوء ما سبق، أن نراجع عقولنا ونسائل طرائق تفكيرنا، وأن نتعقَّب تحيُّزاتنا الماهوية وأن نواجهها بشجاعة، مدركين لآثارها على التفكير الذي يُنتج السلوك، ومن ثمَّ على السلوك الذي يُنتج الواقع.

#أنس_سعيد_محمد

12/07/2021

شرفة الفردوس – إبراهيم نصر الله

18/08/2021 عند 20:37 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

رواية: شرفة الفردوس (الجزء الخامس من سلسلة الشرفات)

لمؤلفها: إبراهيم نصر الله

البلد: فلسطين 🇵🇸

صدرت عام: 2015

.

=====

كانت تجربة قراءتي لـ “شرفة الفردوس” واحدةً من أغرب تجاربي القرائية؛ فبعد نهايتها المباغتة التي تثير الشك في أن صفحاتٍ بعدها قد حُذفت عن طريق الخطأ، لم أجد في نفسي غير انطباع سلبي بسيط على جانب من السذاجة، وذلك لتعلُّقه فقط بالسطح الخارجي للرواية، ولما بدا لي محاولةً غير موفقة للمزج بين الواقعية في شرفتي العار والهاوية والسريالية في شرفتي الهذيان ورجل الثلج.

تبدو القصة في ظاهرها قصة عادية لفتاة تكابد المناكفات المزعجة لمالك العمارة التي تقيم فيها، ثم يتضح أن العالم الذي بدا واقعياً هو في الحقيقة عالم سريالي سرعان ما تنتثر في جنباته العجائب، لتنتهي الرواية نهاية مباغتة كفيلم يُقطع في منتصفه.

أفرط الكاتب -كعادته- في التلاعب بعناصر الزمان والمكان والشخصية، صانعاً من مزيج ذلك كلِّه فوضى روائيةً بدت لي في البداية متخمة بالألفاظ الفخمة والتشبيهات الأكبر من لبِّ المضمون، كأنما هو هيكلٌ عظميٌّ أُلبس ثوباً فاخراً.

لكن لا بأس… قلتُ لنفسي: “ما هي إلا رواية لم تنل إعجابي، وسرعان ما سأنساها بعد أن أنهمك في غيرها”. لكن ذلك لم يحدث بالسهولة التي تصورتها، إذ ظل إحساس غامض مزعج تجاه الرواية يعتمل في ذهني، وبقيتُ مستحضراً بقوة أجواءها الغريبة التي توشك أن تكون كابوسية، واستشعرتُ على نحو غامض أن أحداث الرواية لا تتحرك فوق مسطرة الزمن المعتادة بل في فضاء تجريدي مطلق.

همساتٌ بعيدةٌ لم أتبين بسهولة كُنهها، وشكلٌ ملتبسٌ يتراءى لي خلف الضباب دون أن أعرف ماهيته.

ووجدتُ نفسي أعود إلى الرواية مدفوعاً بجاذبية غامضة، وراجعتُ بعض فقراتها فإذا صدمةٌ عنيفةٌ جعلتني أعيد النظر في انطباعي الأول كاملاً، وتبدَّت لي الرواية في صورة أخرى غير الصورة الأولى، وتكشَّفت لي عن أعماق جديدة وعلى أعلى درجات الخطورة…

هل عاد “الجبلاوي” من جديد في حُلَّة معاصرة؟ وهل “قاسم” هو التجسيد الروائي للذات الإلهية عند نصر الله كما كان “الجبلاوي” تجسيداً لها عند نجيب محفوظ؟

أدرك جيداً أن من الصعب وقوع إجماع على ذلك مهما تعددت القرائن الدالة عليه، وإن كانت رمزية “الجبلاوي” من الوضوح بحيث لا تدع مجالاً للشك ومع ذلك ارتيب فيها، فإن رمزية “قاسم” أكثر مدعاةً للشك لما تعمَّده الكاتب من الغموض والتدليس. لكني مع ذلك أعرض عليكم بعض القرائن التي أراها داعمة لهذا الإسقاط، تاركاً الحكم النهائي لكل واحد منكم بحسب ما يراه:

تبدأ الرواية باستئجار بطلتها “حياة” (تأمل رمزية الاسم) للطابق السابع والعلوي في عمارة كانت حديثة البناء آنذاك واسمها “عمارة الفردوس” (رمزية الاسم مجدداً)، وهو طابق فسيح واسع الأرجاء يطلُّ على مشهد مترامي الأطراف.

تقع حياة في الخطيئة مع الشاب الذي كانت تعتبره خطيبها، ليفاجئها الوكيل بأن مالك العمارة قد سحب منها الإقامة في الطابق السابع العلوي، وأجبرها على الإقامة في طابق أدنى، وفي شقة مظلمة كئيبة لا تكاد تكون لها نوافذ ولا شرفات.

نستطيع أن نستنتج هنا، بسهولة ربما، أن اسم “الفردوس” يدل على الجنة، وأن عدد طوابق العمارة سبعة بعدد السماوات السبع، وأن إنزال “حياة” من الطابق العلوي الفسيح إلى طابق ضيق مظلم أدنى هو تجسيد لإخراج آدم من الجنة بعد أن اقترف الخطيئة.

فمن يكون إذن “مالك العمارة” الذي أنزل حياة من الطابق السابع العلوي إلى طابق أدنى بسبب الخطيئة؟

مالك العمارة رجل غامض غريب اسمه “قاسم” (وللاسم دلالته القوية)، من أبرز ما تميز به أن وجهه لم يظهر قطُّ على طول الرواية، ورغم أن حياة حاولت مراراً رؤية وجهه إلا أن كل ما أتيح لها أن تراه من زوايا لا يظهر فيها وجهُه.

تعرف حياة أن قاسماً رجل مرهوب الجانب واسع الشهرة، وأنه يملك سلطة أعلى بكثير مما تتصور.

يقع قاسم في حب حياة، ولأنها اختارت أن تقول له “لا” بواسطة إصرارها على خطيبها أنس، قرر قاسم أن يكون انتقامه منها مريعاً، فبدأ بحرمانها من الطابق العلوي السابع، وانتقل لاحقاً إلى إرسال التهديدات المخيفة لها بقتلات لا تخطر لها على بال، بواسطة أوراق مكتوبة يرسل من يدسُّها لها تحت باب شقتها.

كانت حياة تسميه “ساكن الطابق العلوي”، لأنه بالفعل كان يقيم في نفس الطابق السابع الذي طردها منه، وتعرف لاحقاً أن جميع أصدقائها ومعارفها يعرفون قاسماً هذا ويخشونه، لأنهم يدركون إلى أي مدى يمكن أن ينبسط سلطانه وتمتدَّ قدرته.

تقرر حياة أن تتبع قاسماً بسيارتها وأن تراقبه، فيسمح لها أن تظلَّ قريبة منه بعض الشيء، لكن دون أن يمكِّنها من رؤية وجهه.

تلاحظ حياة أثناء مراقبتها لقاسم أنه يكتب أشياء في ورقة، ثم وكأن ما يكتبه يتحقق فوراً على أرض الواقع!

تعرف حياة -ويا لدهشتها- أن قدرة قاسم تصل إلى درجة التحكم بالأقدار نفسها! وعندما سيموت خطيبها في حادث انقلاب سيارة بسبب سيول مدينة جدة، فستعرف حياة أن قاسماً هو من قتله، وأن كل ما حدث كان بتدبير منه.

تعرف حياة أن قاسماً كاتب مشهور له عدة كتب منشورة تقرر قراءتها جميعاً. تبحث عن كتبه في “غوغل” فتُفاجَأ بأن شهرة الرجل فوق الوصف، وأن الإنترنت مليء بالمعلومات عن كتبه وترجماتها للغات الأجنبية وتواريخ إصداراتها، كل هذا دون أن توجد أي صورة شخصية لوجه قاسم على شبكة الإنترنت! وتستغرب حياة كثيراً من كون كاتب بمثل شهرته لا توجد له ولو صورة شخصية واحدة على الشبكة!

تبدأ حياة في قراءة كتب قاسم، ويفاجئها ما تنطوي عليه من تناقضه وقسوته، وأنه حاضر فيها بذاته بشكل كامل، وأن جميع الشخصيات في كتبه تُقتل أو تتعذب كثيراً أو تموت ميتة بشعة، سواء أكان يحبهم أو يكرههم، وسواء أكانوا معه أو ضده.

ثم تكون صدمتها عنيفة عندما تجد نفسها في نهاية أحد كتبه، وأنه يتحدث عنها بشخصها، لكن الكتاب انتهى دون أن تعرف كيف كانت نهايتها ولا ما حصل لها…

تعرف حياة لاحقاً أنه كان يعمل على كتاب جديد لا بد أنه يتضمن الميتة التي اختارها لها، فإن قاسماً بالفعل قد عرَّضها للموت أكثر من مرة، وفي كل مرة كان يقول لها عبر ورقته المدسوسة تحت الباب: “أدَّخر لكِ ميتةً أفضل”.

نعرف أن فكرة الرواية تدور حول رغبة قاسم في الانتقام من حياة لأنها تجرأت على أن تحب غيره… حياة التي تجرأت على أن تقول لقاسم “لا”، وأن تجبره على تغيير مخططاته.

قاسم الذي يملك سلطة شبه كاملة، ويستطيع بأوراقه وأقلامه والكتب التي يؤلفها أن يتعامل مع الناس من حوله وكأنهم “شخصيات” يحركها كيف يشاء، ويختار لها الميتة التي يشاء، حتى لو كانت غرقاً عرَضياً في سيول جدة!

أعتقد أننا لا نستطيع بإزاء هذه القرائن إلا أن نجزم بأن شخصية “قاسم” ما هي إلا تجسيد لـ “الإله” في معناه المطلق، وإن كنا تعوَّدنا على أن تُفسَّر رموز نصر الله على أنها تستهدف “السلطة السياسية” فإننا هنا أمام سلطة من نوع آخر مختلف تماماً، فهل نتجرأ على القول بأن “شرفة الفردوس” رواية تهاجم السلطة الإلهية أو الدينية؟

بقي أن أشير إلى مفارقة دقيقة بين “الجبلاوي” و”قاسم”؛ فإذا كان موت “الجبلاوي” في رواية “أولاد حارتنا” قد فتح أبواباً من التأويل منها ما حُمل على الانتصار للدين وانتقاد بُعد الناس عن الله، فإن معالجة نصر الله لشخصية “قاسم” تضعه في موقف فكري محرج جداً، بحيث يصير اعتبار “شرفة الفردوس” رواية إلحادية رأياً وجيهاً بحق، لا بسبب تجسيد الذات الإلهية فحسب، بل بسبب طبيعة المعالجة نفسها، إذ لم يدَّخر نصر الله جهداً في تصوير “قاسم” بصورة الشخص السادي الغيور المتوحش، والذي لا تنطوي أفعاله القاسية على أية حكمة بل على السادية والشر المطلقين لا أكثر، وهذا ما يخالف كلياً شخصية “الجبلاوي” التي رغم وضوح رمزيتها إلا أن الأفعال المنسوبة إليها تفتح مزيداً من أبواب التأويل والجدل.

رمزية محفوظ كانت واضحة جداً في شكلها لكن الفكرة المتوارية خلفها غامضة وملتبسة، وأما رمزية نصر الله فعلى العكس تماماً، فهي غامضة ملتبسة في شكلها لكن الفكرة المتوارية خلفها واضحة جداً.

جدير بالذكر أيضاً أن “أولاد حارتنا” قد أثارت ضجة عظمى إبان صدورها، لكن “شرفة الفردوس” لم تكد تثير أي ضجة على الإطلاق، فهل بلغنا هذا الحد من اللامبالاة الأدبية بمضامين الروايات أم أن القرائن أعلاه لا تعدو أن تكون مجرد “بارانويا روائية” مبنية على الأوهام؟

ما رأيكم أنتم؟!

#أنس_سعيد_محمد

16/08/2015

بين الظلمتين – سناء بنعتو

10/06/2021 عند 10:36 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

كتاب: بين الظلمتين

تأليف: سناء بنعتو

رسوم: نسيبة الرحموني

البلد: المغرب

صدر عام: 2020

.

=====

* بين يدي العنوان (بين الظلمتين / بين ظلمتين):

أول ما وقع بصري على عنوان هذه المجموعة، وقبل أن أعرف إلى أي نوع أدبي تنتمي، خطرت ببالي العبارة التالية لنجيب محفوظ: “الحاضر نورٌ يخفق بين ظلمتين”. وقد ظننتُ في البداية أن الكاتبة تعمدت اقتباس عنوانها من هذه العبارة، لكني حين سألتُها أخبرتني أنها لم تسمع بها من قبل، وأن عنوانها من بنات أفكارها، وهو ما شكَّل مع العبارة المحفوظية حالة جميلة مما يسمى بلغة العصر “التناص”، وباللغة القديمة “وقوع الحافر على الحافر”.

وقد كنتُ قبل قراءتي للمجموعة كأني أستثقل قليلاً تعريف لفظة “ظلمتين”، بسبب تأثُّري بعبارة محفوظ وتمكُّنها من ذاكرتي، وكنت أقول في نفسي: لو أنها نكَّرت الظلمتين ليكون عنوان المجموعة “بين ظلمتين”، فلعل ذلك أن يكون أخفَّ وأفضل. لكني بعد قراءة المجموعة أعدتُ النظر في هذا الرأي، وتبين لي أن العنوان مناسب تماماً لمحتوى الكتاب، وأن وجه الاختلاف بين دلالته ودلالة العبارة المحفوظية يبرر تماماً تنكير هذه وتعريف تلك.

حين كتب محفوظ “الحاضر نورٌ يخفق بين ظلمتين”، فإنه قصد بالحاضر كل لحظة تمرُّ من عمر الإنسان، وبذلك فظلمتا محفوظ هما اللحظة التي مضت للتو، واللحظة التي ستأتي فوراً، فهما إذن ظلمتان تتعددان بتعدد الأزمنة والأمكنة والخلائق، وبينهما اختلاف كامل بحيث يستحيل أن تشبه إحداهما الأخرى. لذلك نفهم أن الأنسب في حقهما التنكير.

وأما مؤلفة الكتاب فتقصد بما بين الظلمتين عمرَ الإنسان في مجمله، فظلمتاها إذن هما ظلمة الرحم وظلمة القبر، وهما معروفتان متشابهتان بل متطابقتان، ولذلك فالأنسب في حقهما التعريف.

* “تعتذر الدار عن نشر المجموعات القصصية والخواطر“:

ينتمي كتاب “بين الظلمتين” إلى فئة الخواطر، وربما إلى نوع مكثف منها يسمونه “الشذرات” (سنعود لموضوع التسمية لاحقاً)، وهو نوع أدبي قائم بذاته، وله خصائصه ومميزاته، وجمالياته وصعوباته، لكنه للأسف الشديد من الأنواع التي أمست مظلومة تعاني الإهمال والنبذ في زمننا هذا الذي طغت عليه الرواية، وكسفت بنورها الساطع كثيراً من الأجناس الأدبية المعتبرة بما فيها القصة القصيرة نفسها.

لقد صار من الشائع حين نبحث عن شروط تقديم الأعمال إلى دور النشر، ولا سيما الكبرى منها، أن نجد ضمن الشروط العبارة التالية: “تعتذر الدار عن قبول المجموعات القصصية والخواطر”. وهي عبارة وإن كان لها ما يبررها، من وجهة نظر تجارية (وما أبشع جناية التجارة على الأدب)، إلا أنها كرَّست نوعاً من النظرة الدونية لكل جنس أدبي غير الرواية، فصار يُنظر إلى المسرحية والقصة القصيرة والخواطر على أنها محاولات للمبتدئين، وصار لقب “القاص” كأنه أدنى رتبةً من “الروائي”، بل إن الكتَّاب أنفسهم تأثروا بهذه التراتبيات الأدبية فصار بعضهم يعتبر قصصه القصيرة أو خواطره مجرد “تدريبات” يمهِّد لنفسه بها طريق الرواية.

إلا أن المفارقة الصارخة هي أن هذا الجنس الأدبي المظلوم قد يحظى بإقبال شديد من لدن الكتاب الكبار من ذوي الشهرة الطاغية، وهنا فقط يغيِّر الناشرون شروطهم ويوافقون على نشر الخواطر، كأن هذا النوع الأدبي يظلُّ يسِم الكاتب الشاب بالسطحية والرداءة، وأن عليه أن يمضي عمره القلمي في كدح روائي طويل وشاق حتى يبلغ ذروته الأدبية، فحينئذ فقط يحقُّ له أن يحال إلى التقاعد وأن ينعم بمميزاته، وحينئذ فقط يصير بمقدوره أن ينشر خواطره ونصوصه القصيرة بكل سهولة ودون أن يتجرأ أحد على الاعتراض عليه، بل سيُنظر لأي شيء يكتبه على أنه عصارة حكمة ونتاج خبرة حياتية مديدة.

من الأمثلة على هذا الجانب من واقعنا الأدبي نجيب محفوظ نفسه، فقد كان إبان شبابه يكتب الروايات الطويلة دون أن يلتفت إليه أحد، ثم انتُبه إليه وارتقى سلم المجد الأدبي حتى بلغ ذروته، ثم بعد ذلك كف عن الرواية بل وحتى عن القصة القصيرة، وصار كل ما ينشره نصوصاً قصيرة من بضعة أسطر، شذرات وخواطر وذكريات وأحلام منام (“أحلام فترة النقاهة” نموذجاً)، وقد مات نجيب محفوظ وصدرت بعد موته نصوص قصيرة وأسقاط نصوص وُجدت ضمن متعلَّقاته (آخر ما نُشر له “همس النجوم”).

أحمد خالد توفيق كذلك له منشورات من قبيل “تويتات من العصور الوسطى” و”فقاقيع”، وهي أقرب لمنشورات فيسبوكية طريفة ما كان أيُّ كاتب شاب ليحلم بأن يُنشر له مثلُها أو حتى أفضل منها، إلا إن بلغ مثل شهرة أحمد خالد توفيق وراكم مثل نتاجه الروائي الدسم.

“فقه الحب” ليوسف زيدان نموذج آخر. وعموماً فإن واقعنا الأدبي يزدري الخواطر والنصوص القصيرة حين تصدر من الشباب، ويحتفي بها حين تصدر من مشاهير الأدباء، وغني عن الذكر أن هذا الواقع الذي تشكله في الغالب مزاجية الناشرين لا يتعلق بالجودة الأدبية إطلاقاً، بل باعتبارات تجارية واجتماعية أبعد ما تكون عن الأدب.

وأنا حين أتيتُ على هذا الحديث فلكي أضع كتابنا المُراجَع في سياقه من حيث نوعه الأدبي وموقعه من مسيرة كاتبته، فـ “بين الظلمتين” كتاب خواطر ونصوص قصيرة، لكنه ليس عملاً أول حتى يُنسب إلى التدريبات الكتابية، وليس عملاً أتى في أواخر المسيرة، بل هو عملٌ لكاتبة شابة في مقتبل عمرها الأدبي، ولها قبله رواية منشورة، فهي إذن قد اقتحمت غمار الرواية أولاً، وأدلت فيها بدلو، ثم جاء كتاب الخواطر هذا ثانياً، وعلى نحو لا يُشعر القارئ والمتابع بأن الكاتبة تستصغره مقارنة بروايتها الأولى، بل ربما على العكس من ذلك، وهو ما دلَّ على وعيها -ووعي ناشرها كذلك- بأن الجمالية الأدبية غير مقصورة بالضرورة على فن الرواية، وأن ثمة أجناساً أدبية عديدة تستحق أن يجرَّب فيها، وأن تحظى بفرصة النشر.

* نصال مرهفة، ذات أطراف ضئيلة حادة:

يمكننا القول بأن تعبير “النصوص القصيرة” هو الأشمل لهذا الجنس الأدبي، وإن لم يكن مستعملاً بسبب شيوع تحديدات أخرى، قديمة وحديثة. فقديماً كانت القطعة منه تسمى “قولاً” أو “موعظة” أو “عبارة”، وقد نُقل منها الشيء الكثير على ألسنة العرب القدماء، وهناك من صنف منها كتباً كابن الجوزي في “صيد الخاطر” وابن عطاء الله السكندري في حِكمه الشهيرة. وفي العصر الحديث شاعت تسميات أخرى من قبيل “الاقتباس” إن انتُزعت العبارة القصيرة من رواية أو مقالة، كما نجد أيضاً “الخاطرة” و”الشذرة”. وفي السنوات الأخيرة شاع ما يسمى “التويتة” أو “التغريدة”، كما أن “المنشور الفيسبوكي” صار جنساً أدبياً قائماً بذاته، فارضاً لنفسه وإن لم يُعترف له بهذه التسمية، بل أُلحق بفئة عامة شاملة هي “الخواطر”.

ولعموم هذه “النصوص القصيرة” خصائص ومميزات تجمع بينها رغم اختلاف مضامينها بين ما يخاطب العقل والقلب والضمير، فمن تلك الخصائص صغر الحجم، وصغر الحجم يستدعي ولا بد تكثيف الألفاظ والمعاني، والبعد ما أمكن عن الدقة والتحديد، والتحليق في سماء العموميات والأفكار العريضة، وهو ما يوسِّع دائرة المشترَك بين الكاتب والقارئ، بحيث لا بد أن يجد القارئ في الخاطرة تقاطعاً ما مع حياته الخاصة ومشاعره وأفكاره، وهذا من أبرز نقاط قوتها وجاذبيتها، لما فيه من تواصل خفي بين الكتَّاب والقراء في عوالم أثيرية سرية وغامضة. ومن خصائصها أيضاً اختلاف النبرة في خواتمها، ولنا أن نتخيل خطيباً أو ملقياً صوتياً للمواعظ أو الخواطر أو القصص القصيرة ذات المغزى الأخلاقي والتأملي، وكيف أنه يبدأ الإلقاء بنبرة خافتة يرفعها تدريجياً، حتى إذا بلغ العبارة الأخيرة توقف لحظةً ليشدَّ انتباه السامع، ثم يتلو الخاتمة بنبرة مختلفة ليُحدث في نفس السامع التأثير المطلوب.

نفس الشيء ينطبق على العبارات المكتوبة (والتي لها نبرةٌ أيضاً كالمسموعة تماماً)، وقد كان طه حسين من الذين حاولوا وصف هذا الجنس الأدبي وتحديد خصائصه، بل والتأليف فيه وذلك في كتابه المتميز “جنة الشوك”، حيث عرض في مقدمته وصفاً مستفيضاً لتاريخ ذلك الفن ومميزاته، وذكر أنه يعود في أصله إلى منقوشات شعرية يونانية ولاتينية قديمة تسمى “إبيجراما”، وكان مما ذكره اعتمادُ هذا الفن على خواتمه التي تجعل مقطوعاته شبيهةً بالسهام في سرعة انطلاقها وقدرتها على اختراق الأهداف بنصال مسننة.

يقول طه حسين في مقدمة كتابه “جنة الشوك”: “ثم يمتاز هذا الفن بخصلة أخرى لا أدري كيف أصوِّرها، ولكن سأحاول ذلك كما أستطيع، وهي أن تكون المقطوعة منه أشبه شيءٍ بالنصل المرهَف الرقيق ذي الطرف الضئيل الحادِّ، قد رُكِّب في سهم رشيق خفيف لا يكاد ينزع عن القوس حتى يبلغ الرَّمْية، ثم ينفذ منها في خفة وسرعة ورشاقة لا تكاد تُحَسُّ. ومن هنا امتاز هذا الفن بالبيت الأخير أو البيتين الأخيرين من المقطوعة؛ فهما يقومان منها مقام الطرف الضئيل النحيل الرقيق الرشيق من نصل السهم، فإذا كانت المقطوعة بطيئة الحركة ثقيلة الوزن، فليست من هذا الفن في شيء”.

وقد راعيتُ أن ألاحظ هذه المسألة أثناء قراءتي لـ “بين الظلمتين”، فوجدتُ أن الكاتبة اعتمدتها في جلِّ خواطرها اعتماداً فطرياً، لأن جنس الخواطر يفرض طبيعته على متعاطيه حتى دون أن يتعلمه ويقرأ عن خصائصه ومميزاته، وهو ما يدلُّ على أن الأديب بسليقته لا يعلَّم الأدب، وأن الأدب سابقٌ للنقد، وأن كلَّ ما يحاول النقد فعله هو أن يُخرج إلى حيِّز التجسيد اللفظي ما يعرفه الكاتب بفطرته.

* تأليف: سناء بنعتو

– تقوم فكرة الكتاب على عرض خواطر قصيرة ترافق مراحل عمر الإنسان بدءاً من مغادرته ظلمة الرحم وحتى دخوله ظلمة القبر، وقد أُرفقت كل خاطرة برسمة تعبر عن معناها، فكان الكتاب جامعاً لفنين اثنين هما الكتابة والرسم، بحيث يَنظر القارئ إلى صفحته اليمنى فيقرأ الألفاظ والتراكيب اللغوية، ثم ينظر إلى الصفحة اليسرى فيصمت متأملاً جمالية الرسم، ثم يراوح بصره بين اللوحة المكتوبة واللوحة المرسومة متأملاً عناق القلم والريشة، وكيف تُرجمت كلمات القلم إلى رسمة بالريشة، أو كيف تُرجمت رسمة الريشة إلى كلمات بالقلم.

– الخواطر قصيرة مركزة وهذا ما ينبغي أن تكون عليه، وبذلك صار الكتاب أشبه بواحة يستراح تحت ظلالها من تعب الكتب الثقيلة والروايات الطويلة. هو كتاب صغير الحجم ويصير أصغر عند قراءته، لا يكلف قارءه وقتاً ولا جهداً (يمكن إتمامه في جلسة واحدة قصيرة)، بل يدفعه إلى حالة من الصمت الداخلي والتأمل في تلك المساحات المتقاطعة بين خواطر الكتاب وحياته الخاصة وأفكاره ومشاعره.

– يبدأ الكتاب بخواطر واضحة حول الميلاد والطفولة، لكن في صفحة ما (وربما بتدرج غير محسوس) ينتقل بنا إلى خواطر عامة حول الحياة في مجملها لا تنتمي إلى أية مرحلة عمرية. وجدتُ هذا الانتقال متسقاً مع منطق الحياة كما هي، ويعبر عما نعيشه جميعاً من تلك الغفلة الممتدة التي ابتدأت فينا منذ غادرنا الطفولة، ولا ندري متى نفيق منها. لكني مع ذلك وددتُ لو أن الكاتبة كانت أكثر تحديداً في عرض بعض المراحل المفصلية في حيواتنا، كما كانت محددة تماماً في تناولها للطفولة والشيخوخة. ونعم لكل إنسان حياته الخاصة المختلفة عن غيره، لكن ثمة بلا شك ترتيباً قياسياً محدداً قلَّ من يشذُّ عنه (طفولة – دراسة – تخرج – عمل – زواج – أطفال – تربية – كهولة – شيخوخة – موت). ولستُ أقصد أن تُعرض خواطر مباشرة تدلُّ على تلك المراحل، لكن ربما كان من الأمثل والأكثر ملاءمة لموضوع الكتاب أن يشار ولو من بعيد إلى تلك المحطات، حتى تكون نقاطاً مرجعية مرتبطة بفكرة الكتاب، وحتى يحافظ القارئ على إحساسه بخط الحياة الزمني.

– عرفتْ بعض مواضع الكتاب اختلالاً في نسقه الدلالي على مراحل الإنسان العمرية، كان أولها في الصفحة 18 (خاطرة: دهشة)، وهي وإن كانت من الخواطر الأولى في الكتاب التي تتحدث عن دهشاتنا الطِّفلية المبكرة حين نكتشف الحياة أول مرة، إلا أنه ورد فيها: “كركوبنا الدراجة أو تسلُّقنا الجبال أو اختبارنا لمشاعر المحبة”. نلاحظ هنا أن “تسلق الجبال” ليس نشاطاً طفولياً إذ لا يتأتَّى إلا بعد اشتداد العود، لذلك لم يكن مناسباً إضافته إلى خاطرة من خواطر الكتاب الأولى. نلاحظ أيضاً أن الكاتبة لم تتحدث عن تجربة “الولادة” إلا في الصفحة 142 (خاطرة: معجزة)، حين كان الكتاب يدنو من نهايته. ومعلوم أن تجربة الأبوة أو الأمومة تقع عموماً في الثلث الأول من الحياة أو قبيل منتصفها بقليل. مكان الخاطرة لم يكن موفقاً بدليل أنه انتُقل بنا بعد خاطرة واحدة فقط (الصفحة 146 – خاطرة: إشارات) إلى الحديث عن الشيخوخة والمرض ودنوِّ الأجل.

– لغة الكتاب سلسة سليمة خالية من الأخطاء، لا أذكر أني صادفتُ خطأ لغوياً أثناء القراءة إلا واحداً فقط تكرر مرتين أو ثلاثاً: لا شك أن الكاتبة تعلم بأن أداة الشرط “كلَّما” تُذكر مرة واحدة فقط في بداية الجملة الشرطية، ومن الخطأ تكرارها قبل جواب الشرط، وأعتقد أنها طبَّقت القاعدة بشكل صحيح في أكثر من موضع، لكنها وفي استعمالها لأداة مماثلة هي “قدرما” وقعت في الخطأ، وكرَّرت “قدرما” مرتين؛ واحدةً في بداية الجملة الشرطية وأخرى قبل جواب الشرط.

– لم تقع الكاتبة في فخ السوداوية المفرطة والمبالغة في التشاؤم (الإفراط في السوداوية غالباً ما يكون حيلة تجارية رخيصة)، بل على عكس ذلك نلاحظ أن معظم خواطر الكتاب مفعمة بطاقة إيجابية تدعو إلى التفاؤل وعدم فقدان الأمل، وهذا من أكثر ما أعجبني في الكتاب.

* رسوم: نسيبة الرحموني

الرسوم في هذا الكتاب ليست عاملاً مساعداً فحسب، أو إضافات فنية ثانوية، بل تسير مع الخواطر بالتوازي تماماً، جنباً إلى جنب، وتتقاسم معها نفس القدر من الأهمية (إحصائياً قد تزيد الرسومات على الخواطر بواحدة أو اثنتين، حيث إن بعض أزواج الصفحات تضمنت رسوماً فقط)، والكاتبة تركِّز في أحاديثها وتعليقاتها على الإشارة إلى هذه المسألة، وإلى أن الكتاب ثمرة جهد مشترك يجب أن يُنسب لشخصين، إذ تقول دائماً: “أعددناه أنا ونسيبة – نشرناه أنا ونسيبة…”.

رسوم الكتاب بديعة جداً، وعلى مستوى عالٍ من الجمالية الفنية والعمق التعبيري، وقد أحسنت الرسامة استغلال اللونين المتاحين لها (الأبيض والأسود) استغلالاً ذكياً لصناعة لوحات تجسِّد ما في الخواطر من الاستعارات اللغوية والمعاني المجازية، كما أن أسلوبيَّتها في الرسم ترتكز على تباين مزدوج بين “الأبيض والأسود” من جهة، وبين “الإفراغ والملء” من جهة أخرى.

لقد اعتمدت الرسامة أسلوب “الإفراغ” في عرضها للهياكل الآدمية، ولما هو مشترَك ومعروف، إذ اكتفت برسم الحدود الخارجية للأشخاص والأشياء فقط، مع أقل قدر ممكن من التفاصيل. لكنها في المقابل اعتمدت أسلوب “الملء” في عرضها للأفكار والمعاني والاستعارات المجازية المعبرة عن الحالات النفسية، والتي عبَّرت عنها بطريقتين هما: السواد الكثيف أو الخربشات الفاحمة المنفعلة للمعاني السلبية كالحزن والخوف والخيبة، والخامة الزخرفية المشبعة بالتفاصيل للمعاني الإيجابية كالسعادة والمحبة والتفاؤل.

وعموماً فقد كانت فكرة الرسومات الموازية للخواطر ذكية جداً وفي محلها تماماً، لأنها تملأ ذلك الفراغ المعتاد في كتب الخواطر التي لا يُستحسن فيها عرض أكثر من خاطرة واحدة في الصفحة الواحدة، ولأنها تتراوح بالقارئ بين تأمل المكتوب والمرسوم، القلم والريشة، ما يُشبع لديه ذائقتين فنيتين اثنتين وليست واحدة فقط.

كتاب “بين الظلمتين” تجربة أدبية وفنية فريدة في فكرتها، وهو من الكتب الخفيفة التي تستحقُّ أن تظل قريبة من العين وفي متناول اليد، وأن تُفتح بين الفينة والأخرى على صفحة عشوائية منها، فلربما يقع القارئ فيها على معنى يسلِّيه أو فكرة ترشده، أو يبعث في نفسه جرعة أمل ودفقة تفاؤل…

أنس سعيد محمد

10/06/2021

أحجية إدمون عَمران المالح – محمد سعيد احجيوج

12/05/2021 عند 12:14 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

رواية: أحجية إدمون عَمران المالح

لمؤلفها: محمد سعيد احجيوج

البلد: المغرب 🇲🇦

صدرت عام: 2020

.

====

1- ثنائية الاطمئنان والقلق في الرواية:

حين اقتنيتُ هذا الرواية بعد وصولها متأخرة إلى المغرب، كنتُ قد قرأتُ ما كُتب عنها من مراجعات نشرها المؤلف، وبذلك كنتُ مطَّلعاً على أبرز الكلمات المفتاحية التي تؤطر عوالم الرواية. لدينا مثلاً على مستوى المضمون: إدمون عَمران المالح – اليهود المغاربة وهجرتهم إلى فلسطين المحتلة – غرق السفينة إيجوز – الفرق بين اليهود والصهاينة – فساد الجوائز الأدبية (الرشوة والأدلجة) وخضوعها لمافيا النشر – ألاعيب الوعي والذاكرة… إلخ. وأما على مستوى الشكل فما من مراجعة كُتبت للرواية إلا ونوَّهت ببنيتها السردية المتطورة، وخروجها عن السرد الخطي والأنماط التقليدية، وجرأتها على مساحات جديدة من التجريب (يصرُّ بعضهم على إلصاق كل اجتهاد سردي بتيار ما بعد الحداثة!). ثم إننا حين نحمل الرواية بين أيدينا، ونتلمَّس قدَّها النحيف، نتساءل كيف استطاع الكاتب التقريب بين كل تلك المتباعدات، والتأليف بين الأجزاء المختلفة، فيتكوَّن في نفوسنا شعوران متناقضان؛ شعور بالاطمئنان يغري بالاسترخاء وقراءة الرواية بنصف اهتمام (فهي رواية قصيرة)، وشعور بالقلق يدعونا إلى أن نتسلَّح بالحذر ونشحذ الانتباه. ولكل من هذين الشعورين أسباب يمكن تلخيصها فيما يلي:

* العوامل المُطَمئنة:

– وجود اسم “إدمون عَمران المالح” في عنوان الرواية: وعَمران هذا شخصية حقيقية، ما يوحي بشيء من الألفة مع موضوع الرواية، وأنها لن تحدثنا حول أساطير متخيَّلة بل حول شخصية واقعية يمكن البحث عنها وقراءة سيرتها.

– الحجم الصغير للرواية: فهي “نوفيلَّا” من 95 صفحة تقريباً، وصغر حجم الرواية رسالة مطمئنة بأن بالإمكان التهامها في جلسة واحدة أو جلستين، ومن ثمَّ لن يصعب على القارئ الإحاطة بها والسيطرة على خيوطها.

– تطرُّقها لعوالم الكتابة والنشر والجوائز الأدبية: ويعرف كل قارئ أن هذه المواضيع هي من “ألذِّ” ما يمكن أن تتحدث عنه رواية، لأن الأمر يصير أشبه بجلسة صراحة بين القارئ والكاتب، أو حتى مكاشفة لأسرار “خطيرة” حول العوالم الغامضة للكتابة والنشر والجوائز.

* العوامل المقلقة:

– وجود لفظة “أحجية” في العنوان (ونلاحظ هنا أن العنوان نفسه يتضمن عوامل مطمئنة ومقلقة): الحديث عن أحجية حديثٌ عن لغز، قد يكون اللغز مرتبطاً بمضمون الرواية أو بتقنيات السرد، أو بهما معاً، لكن اللفظة عموماً تتضمن إنذاراً للقارئ مفاده: لا تنخدع بصغر حجم الرواية، فهنا أحجية ستتطلب منك تشغيل عقلك وإعمال ذكائك… انتبه جيداً ولا تنخدع بالمظاهر!

– رواية الفصل الواحد: حين نقلِّب أوراق الرواية تقليباً سريعاً قبل البدء في قراءتها، نلاحظ أنها كُتبت على شكل كتلة واحدة غير مقسمة لفصول وأجزاء (تماماً مثل رواية العمى لساراماغو أو العصفورية لغازي القصيبي). القارئ عموماً لا يحب هذا النوع من الكتابة، إذ يفضِّل تسهيل القراءة عليه عبر تقسيم الرواية إلى فصول قصيرة أو متوسطة، لكن الكاتب هنا يتعمد استفزاز القارئ، ويكلِّفه بهذه المهمة الشاقة.

– التبشير بصعوبة السرد: صارت لفظة “تقنيات السرد” مقلقة بحد ذاتها، بسبب نزوع الكتَّاب في هذه الأيام إلى تعقيدها والتلاعب بها، والخروج عن الأنماط الخطية الميسرة. لقد صرح الكاتب بذلك في أكثر من موضع، بل لقد ذكر في أحد تعليقاته بأنه “لم يتساهل مع القارئ”. إن كان واضحاً أن الكاتب في روايته هذه ناقم على واقع النشر والجوائز، ساخط على الأوضاع الأدبية وما تتخبط فيه من أوحال، فيبدو أيضاً أن القارئ لم يسلم من نقمته، وأن لدي الكاتب حساباً يصفِّيه معه عبر تعذيبه بسردٍ لا تساهل فيه ولا رحمة.

تتمازج هذا العوامل المُطَمئنة والمقلقة في نفس القارئ قبل أن يشرع في القراءة، يفتح الرواية فيجدها مستهَلَّة باقتباس: “ينبغي التيه ليتحقق الوصول”. تثير لفظة “التيه” في نفسه القلق وتثير فيها لفظة “الوصول” الاطمئنان. ينتقل إلى الصفحة الأولى فتصدمه العبارة الفظة التالية: “مرِّر رواية اليوم المقدس إلى القائمة القصيرة وستحصل فوراً على شيك بعشرين ألف فرنك”.

ابتزاز وقح منذ الصفحة الأولى بل منذ السطر الأول! أسلوب كهذا لا نكاد نجده إلا عند “خوسيه ساراماغو” المعروف بمباشَرته الفجة، وكأن الكاتب يريد أن يقول لنا: الرواية قصيرة والسرد معقد ولا وقت لدي لتدبيج المقدمات، لندخل في صلب الموضوع مباشرة، عندي هنا لُباب فقط فلا تبحث عن القشور.

وهكذا يجد القارئ نفسه في خضمِّ السرد دون تمهيد، وسيعرف طوال قراءته للرواية أن ثنائية (الاطمئنان والقلق) حاضرةٌ بقوة في كل تفاصيلها، وأن البندول المتأرجح بينهما لن يكف عن التمايل ذات اليمين وذات الشِّمال حتى صفحتها الأخيرة.

2- تداخل الجزء والكل: الأواني المستطرقة / دمية ماتريوشكا الروسية:

– تبدأ الرواية بغرفة بيضاء الجدران، وبذاكرة بيضاء ووعي فارغ كلياً… عاملٌ مُطَمئن يوحي بأننا سنبدأ من الصفر، وكأن الكاتب يضع أمامنا، أولاً، صفحة عذراء ناصعة لا تشوبها شائبة، قبل أن يبدأ باستعراض أحجيته فوق تلك الصفحة البريئة.

– ثمة تناقض واضح بين مفهوم “الأحجية” كما نعرفه، وبين أسلوب “الكتلة السردية الواحدة” الذي اعتمده الكاتب… جميع أنواع الأحاجي التي قد تخطر على بالنا تعتمد على تجميع الأجزاء المفككة: صورةٌ مقسمةٌ إلى قطع صغيرة، مجسمات ليدو… وحتى الألغاز الشائعة في الثقافة الشعبية ترتكز على سرد مفتَّت لقصص قصيرة بحيث يُطلب منا تجميع أشلاء المعطيات واكتشاف الروابط الخفية بينها. لكن روايتنا هذه جسم سردي واحد، هلام غامض متجانس عديم الشكل، فليست هناك -في الظاهر على الأقل- أجزاء مفككة يُطلب من القارئ تجميعها، فهي إذن “أحجية معكوسة” تتطلب تفكيك جزء واحد مجمَّع وليس تجميع أجزاء كثيرة مفككة.

– مع توالي الصفحات يبدأ بطل الرواية، الفاقد لذاكرته، بمحاولة التذكر عبر الكتابة، وعبر ما تثيره من تداعي الأفكار. وهكذا يبدأ البياض المطلق بالتلطخ بسواد الذكريات، ذكرى تتلوها ذكرى، ثم ذكرى تتفرع عنها ذكرى، ثم ذكرى تخرج من أحشائها ذكرى. سنعرف إذن أن ما بدا لنا في البداية هلاماً غامضاً متجانساً عديم الشكل هو ليس كذلك في الحقيقة، وأننا بالاقتراب من ذلك الجسم سيتضح لنا التبايُن بين أجزائه، وسيكون علينا أن أردنا السيطرة عليه أن نفرق بين تلك الأجزاء وأن نفكك أوصالها، أن نتحدى تلك الكتلة السردية الواحدة وأن نقسمها بأنفسنا إلى أجزاء وفصول. يشبه الأمر أن تكون الرواية مادة خاماً، كتلة عجين أدبية، بحيث يكون على القارئ أن يساهم في تشكيل صورتها النهائية في ذهنه أولاً، ثم لا بأس عليه إن استعان بالأقلام الملونة لتحديد اتجاهات السرد واستكناه الخطاطة الخفية لهندستها الأدبية.

– الكتلة الواحدة هي عماد اللعبة السردية في هذه الرواية، بحيث يكون التحدي المعلَن بين الكاتب والقارئ هو التقاط لحظات الانتقال السلس بين المواضيع والذكريات، نعود هنا إلى فكرة “البندول” الحاضر بقوة في هذه الرواية، والتي سعى الكاتب من خلالها إلى تنويم القارئ مغناطيسياً، وإلى التطويح به بين المواضيع دون أن ينتبه للحظة الانتقال. فكأني بالكاتب يقول للقارئ: “لا تحقرنَّ روايتي إذ تراها صغيرة الحجم، فإنها ستتطلب منك مجهوداً أكبر مما قد تتطلبه الروايات الطويلة، كما أني سأعرقل مسيرك فيها، ولن تجدها طريقاً معبَّدة من أولها إلى آخرها”. ونعم، سواء أصحَّ تخميني لهذا المعنى القائم في نفس الكاتب أم لا، إلا أنه نجح فعلاً في جعل روايته قصيرةً في حجمها طويلةً في قراءتها، فكأن الكاتب يقف وراءك يشدُّ ثيابك من الخلف، وكلما أحرزتَ تقدماً في القراءة وجدتَ نفسك مضطراً للعودة صفحات إلى الوراء بحثاً عن رأس خيط الموضوع السردي.

– العلاقة بين مواضيع الرواية ليست فقط علاقة تجاور وتتابع وتكامل، بل هي تداخلات معقدة مبنية على تأطيرات تراتبية لا تمتد أفقياً في الزمن إلا بقدر ما تمتد عُمقياً في الوعي والذاكرة. طيلة قراءتي للرواية كنت أحاول استحضار التشبيه الأقرب لبنيتها السردية، خطرت ببالي في البداية مجسَّمات الليدو، ثم الأواني المستطرقة، وأما التشبيه الأقوى حضوراً في ذهني، وإن لم يكن تشبيهاً دقيقاً جداً، هو دمية ماتريوشكا الروسية.

– بتطرقها لموضوع اليهود تدخل الرواية في حقل ألغام نشط، وهنا نجد أن الكاتب تجاوز في حديثه عن الشأن اليهودي، وعن التفريق بين اليهود والصهاينة، ذلك الأسلوب العربي المعتاد، المفعم بالعواطف والمليء بالشعارات الصارخة الرنانة، بل لقد التزم نبرة رصينة موضوعية وقد تبدو محايدة. تلك النبرة الهادئة هي التي مكنته من إضاءة الجانب الإنساني في شخصية إدمون عَمران المالح، اليهودي المعارض للحركة الصهيونية ولدولة إسرائيل المزعومة.

– حظيت الرواية بتحرير أدبي بالغ الجدية، وبتدقيق لغوي متميز جداً جعل قراءتي لها سلسة تماماً وخالية تقريباً من أية مطبات مزعجة. الرواية تكاد تخلو من الأخطاء اللغوية وأخطاء الطباعة اللهم إلا هفواتٍ يسيرةً تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة.

– لم يفُت الكاتبَ، في لفتة ذكية وموفقة جداً، أن يهدم في نهاية روايته كلَّ ما بناه في صفحاتها، وأن يفاجئ القارئ بإثارة شكوك جدية حول كل ما قرأه، ثم ليعود به إلى نقطة البداية من جديد، لتتخذ الرواية بذلك شكلها النهائي الشبيه بالدائرة المفرغة، أو بتشبيه أدق: قوقعة الحلزون.

3- محمد سعيد احجيوج: صراع شرس بين الكاتب والناقد:

على خلاف روايته السابقة “كافكا في طنجة” التي كانت وليدة لحظة انفعالية تلتْ قراءته لرواية “التحول”، فإن روايته هذه تعبِّر عن مواضيع من صلب اهتمام الكاتب، إذ يمكن أن نلمس من متابعتنا له اهتمامه الواضح بالشأن اليهودي، وبهموم الكتابة والنشر والجوائز، لذلك فالمادة التاريخية والموضوعية متوفرة لدى الكاتب سلفاً، وتوفُّر المادة يولِّد الأفكار السردية، وهو ما يفسِّر قدرة الكاتب على إحكام عمله والإمساك بخيوطه رغم تعددها وتشعبها، ورغم أنها تبدو في الوهلة الأولى غير ذات علاقة (ما الرابط مثلاً بين جائزة أدبية وهجرة أو تهجير اليهود إلى دولتهم المزعومة؟). كما نلاحظ أيضاً أن بعض الهموم الأدبية للكاتب قد تسلَّلت إلى بطل روايته فعبَّر عنها على لسانه. وقد لا ينتبه لذلك إلا متابع للكاتب على مواقع التواصل الاجتماعي أو مطَّلع على سيرته الأدبية، وهي سيرة يغلب على كافة مراحلها طابعُ التردد والحيرة، وقلق أدبي حاد، وصعوبة شديدة في الإرضاء الذاتي. لذلك يتكرر كثيراً في تصريحات الكاتب أنه كتب رواية فأهملها لأنها لم تعجبه، أو كتب رواية فأعاد كتابتها من الصفر بأسلوب جديد، أو نشر رواية فندم على تسرعه في نشرها. وحتى لو تساءلنا عن “العمل الأول” للكاتب فربما لن نحصل منه على إجابة قاطعة، إذ سنجد عنده اختلافاً بين ترتيب الكتابة وترتيب النشر، وبين أعماله التي “يعترف بها” وأعماله التي يعتبرها ساقطة من سيرته الأدبية، غير مستحقة لأن تُنسب إليه… إلخ.

هذا التردد وهذه الحيرة، نجدهما في الرواية منذ صفحتها الأولى: “هل تصلح تلك المحادثة، ذلك التهديد المخفي والمتستر بالإغراء، بداية لتلقيح بياض هذه الصفحات؟ لا أعرف”. وتقريباً في كل حديث لبطل الرواية حول عملية الكتابة نجد ذلك التردد طافحاً بقوة، فارضاً نفسه، ويطابق تماماً ما يعبِّر الكاتب عنه في تصريحاته الأدبية.

إن ذلك التردد في الحقيقة ما هو إلا عرَض من الأعراض الدالة على سببه الجوهري، والمتمثل في الصراع القائم بين شخصيتين أدبيتين تسكنان الكاتب؛ شخصية الروائي وشخصية الناقد. يتصف الكاتب بأنه ناقد أدبي صارم، بل قاسٍ في بعض الأحيان، وهو أقسى ما يكون على نفسه، ومن المعروف في عالم الأدب أن من الصعب جداً أن يجتمع الأديب والناقد في إهاب واحد دون أن تشتعل بينهما حرب ضروس، ودون أن يعرقل أحدهما حركة الآخر ويحاول السيطرة عليه والاستيلاء على مساحته.

حين يحاول الناقد كتابة عمل أدبي فهو يكون مسكوناً بالقواعد النقدية، حبيساً في قوالبها، مستحضراً نصب عينيه ناقداً افتراضياً قاسياً لا يرحم، فهو إذن يسعى جاهداً للتغلب على ناقده المتخيَّل، وسدِّ الثغرات التي يُحتمل أن ينفذ منها للنيل من عمله، وغالباً ما ينتهي ذلك الصراع إلى أن يؤثر سلباً على النتيجة النهائية للعمل، لأن الكاتب بغلبة الهاجس النقدي عليه يخسر جزءاً وافراً من حريته الإبداعية، ومن ثمَّ يخسر العمل قسطاً من عفويته التي تقرِّبه من قلوب القراء مهما بلغت صوابيته النقدية. ولعل هذا ما يفسر حقيقة التناقض -في كثير من الأحيان- بين الاستقبالين الجماهيري والنقدي للأعمال الأدبية (والفنية عموماً).

لكن هذه الرواية، لحسن الحظ، نجتْ من هذا الصراع المرير، واستطاعت أن تشكل توازناً حقيقياً -هو الأفضل من نوعه حتى الآن في سيرة الكاتب- بين الروائي والناقد. والذي أنقذ الروايةَ -حسب رأيي الشخصي- من أن تتأثر بسلبيات ذلك الصراع هو نبوعها من صلب اهتمامات الكاتب الخاصة، ومن عمق تجاربه الوجدانية في الكتابة الأدبية. تلك الأصالة، وذلك النبوع من الأعماق، هو ما كسى الرواية بهالة تسامت بها فوق المدارس الأدبية والنقدية، رغم أنها لم تسلم، لو دققنا في أعماقها، من يد الناقد الذي يكتب واضعاً نصب عينيه هذه المدرسة الأدبية أو تلك (أعتبر هذا خللاً أدبياً وعكساً للأمور: وضع العربة أمام الحصان).

“أحجية إدمون عَمران المالح” تجربة سردية ناضجة، تتدفق ثراءً وإمتاعاً على مستوى الشكل والمضمون معاً، وقد تمنيتُ حقاً لو حظيت بمواكبة إعلامية لائقة بها، بوصفها عملاً روائياً مغربياً لافتاً، يجب ألا يمر مرَّ الكرام، لا سيما في ظل ما نراه من تمتع أعمال رديئة جداً، لا يستحق بعضها النشر أساساً، بضجة إعلامية هائلة غير مستحقة.

لكن قدَر الرواية فيما يبدو من قدَر الكاتب، والذي نعرفه عن الكاتب أنه عازف منفرد وطائر وحيد، لا يوجد حيث توجد الأضواء، ولا يتجانس مع سائر الجسم الأدبي المغربي فضلاً عن الطنجي، يعيش في قوقعته المنعزلة الخاصة، وله صِلات أدبية ممتدة في العالم العربي متجاوزة للحدود بين البلدان، ومتخلفة من الزمن الرقمي الجميل (المنتديات والمدونات). لذلك يبدو الكاتب في حضوره الأدبي مغرداً خارج السرب، يتفاعل مع أدباء ونقاد لا يكاد يعرفهم في المغرب أحد، ويقرأ ويراجع روايات لم يرها من قبل أحد، ولم تُرَ في مكتبة مغربية قط.

نعم ربما يتبع قدَر الرواية قدَر كاتبها فهي جزء من روحه في نهاية الأمر، لكني أحب أن أؤكد للكاتب أن روايته هذه ستكون علامة فارقة في مسيرته الأدبية، وسواء اعتبرها الكاتب عمله الأول أو الثاني، أو ما قبل الأول، فإن المؤكد أنه وضع لنفسه بها تحدياً صعباً فيما قد يكون، أو يجب أن يكون في المستقبل من أعمال قادمة بإذن الله.

أنس سعيد محمد

12/05/2021

انقطاعات الموت – خوسيه ساراماغو

27/04/2021 عند 14:11 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | تعليق واحد

رواية: انقطاعات الموت

تأليف: خوسيه ساراماغو

البلد: البرتغال 🇵🇹

ترجمة: صالح علماني

صدرت عام: 2005

.

=====

حين كتب ساراماغو روايته هذه كان في نحو الثالثة والثمانين من عمره، وهو سنٌّ يكون الإنسان فيه على حافة قبره. لا عجب إذن أن تستحوذ فكرة الموت على إنسان بلغ ذلك العمر، بوصفها حقيقة صلبة شديدة الدنو، لا يفصله عنها إلا حاجز زمني يسير يصير مستبعَداً أن يقاس بالسنوات بل بالأشهر والأسابيع والأيام.

ما منا إلا من يعي بالموت ويعرف يقيناً أنه ملاقيه، وأنَّ يوماً ما من أيام حياته سيكون الأخير، وأنه قد تتقدَّم ذلك اليومَ فترةُ مرض وألم لعلها تطول أو تقصر. نعم قد تذكِّرنا بالموتِ المواعظُ الدينية أو أخبار الوفاة التي لا يخلو يوم منها، لكننا دائماً نلوذ بذلك التغافل المتعمد، والتناسي المقصود، فنتمثل لا شعورياً فكرة “يحدث للآخرين فقط”، ونرمي بفكرة الموت إلى مستقبل زمني بعيد غير محدد، ونواصل حياتنا مغترين بعنفوان الشباب ووفرة الصحة وامتداد الآمال.

بيد أن الإنسان، حين يبلغ عمراً معيناً، يكون في مواجهة صريحة مع الحقيقة القاسية، فلا يعود ثمة مجال للتغافل ولا للتناسي، ولا يبقى هنالك مستقبل زمني يمكن أن يقذف نحوه بفكرة الموت، بل يواجه الإنسان نفسه بأنه يستدبر من عمره أكثر مما يستقبل، وأن ذلك الموت الذي فرَّ منه فإنه ملاقيه عن قريب. كيف يا ترى تكون حالة الإنسان الشعورية في ذلك المقام؟ هذا سؤال يستحيل على الشاب، أو حتى الكهل، أن يعرف جوابه على وجه اليقين إلا على سبيل الاستئناس الأدبي والتصورات النظرية، وأما حقيقة الشعور فسيكون عليه أن يُردَّ إلى أرذل العمر كي يعرفها ويجربها، ذلك أن من المستحيل على الإنسان أن يتمثل حقيقة الحالة الشعورية لعمر معين إلا إن بلغ ذلك العمر وجربها بنفسه.

خوسيه ساراماغو، وحين بلغ السن المنذرة بالفناء، حاول التصالح مع الموت الذي أمسى قاب قوسين منه أو أدنى، فوضع روايته البديعة هذه التي افترض فيها حدثاً مستحيلاً في الواقع هو “انقطاع الموت”، ثم رتب على الحدث المفترَض تداعياته المنطقية المتخيَّلة على عدة مستويات ممكنة متعلقة بالاجتماع الإنساني.

يقوم افتراض ساراماغو على العناصر التالية:

– في زمن غير محدد في بلد غير محدد ذي نظام ملكي، ينتبه الناس إلى أن أحداً لم يمت منذ بداية العام الجديد.

– انقطاع الموت يشمل البشر وحدهم، أما الحيوانات فتموت كالمعتاد.

– انقطاع الموت لم يشمل الأرض قاطبة، بل ذلك البلد المعين وحده.

– انقطاع الموت لم يسبب ثباتاً في الأعمار، بل يستمر الناس في التقدم نحو شيخوختهم.

بإزاء هذا النظام الكوني الجديد، استخفَّت الناسَ في البداية فرحةٌ عارمةٌ بسبب تخلصهم، إلى الأبد، من ذلك الكابوس المرعب الذي أقضَّ مضجع البشرية منذ نشأتها. لكن الاحتفالات لم تدم طويلاً؛ إذ سرعان ما طفت على السطح تداعيات وخيمة لم تكن لتخطر على البال، ما دفع بالبشرية إلى إعادة التفكير في ذلك الخلود المشتهى، والذي أمسى، بعد أن ظهرت آثاره، لعنة عظيمة لم يصِب البشرية مثلُها منذ فجر التاريخ.

لم يمض إلا قليل من الوقت على انقطاع الموت حتى انهارت قطاعات حيوية أنذر انهيارها بأزمات سياسية واقتصادية واجتماعية مرعبة، وهو ما دفع بالبلد إلى إعادة ترتيب شؤونه ترتيباً جذرياً، ليتبين لاحقاً أن كل الجهود المبذولة كانت جهوداً يائسة لا تبلغ أن تحتوي الكارثة وتسيطر عليها. وإليكم ما تخيله الكاتب من تلك التداعيات الكارثية لانقطاع الموت:

– تستمد الدولة سلطتها من سلطة الكنيسة، وتستمد الكنيسة سلطتها من فكرة المَعاد (البعث بعد الموت)، والعدالة الإلهية، والجزاء الأخروي. بانقطاع الموت لا تعود ثمة آخرة، فلا يعود لوجود الإله أي معنى، ومن ثمَّ ينهار النظام الكنسي من أساسه وبانهياره تنهار سلطة الدولة.

– فكرة الخلود في الحياة الدنيا تغيِّر في الإنسان مفهوم الخوف، وهو تغيُّر سينعكس ولا بد على علاقته بالسلطة الحاكمة، والتي ستفقد جزءاً كبيراً من سطوتها المستمدة من زرع الخوف من الموت.

– انهار قطاع دفن الموتى، وأفلست الوكالات المكلفة بعمليات الدفن، فكان لانهيار هذا القطاع الحيوي آثار اجتماعية وخيمة. استطاع قطاع الدفن أن يتدارك المأساة -جزئياً- بأن فرض رسوماً على دفن الحيوانات الميتة.

– انهار جزء كبير من قطاع التأمين، إذ لن يعود ثمة معنى للتأمين على الحياة. وبالفعل فقد ثار الناس على شركات التأمين وطالبوا باستعادة أموالهم، لكن نظام التأمين تدارك الكارثة بذكاء حين اعتبر بلوغ سن الثمانين موتاً افتراضياً، لتتجدد العقود تلقائياً إلى ثمانين سنة أخرى وهكذا إلى الأبد.

– انتهى الموت لكن لم ينته المرض. اختل نظام المستشفيات القائم على دخول الناس مرضى وخروجهم أصحاء أو موتى. بانقطاع الموت انغلقت الدارة فلم يعد هناك خروج من المستشفيات، بل دخول فقط، وهو ما سبب اكتظاظاً كارثياً دفع الحكومة إلى ابتداع نظام جديد للإيواء اسمه “بيوت الأفول السعيد”، وهي منازل ينفى إليها الشيوخ والزمنى والميؤوس من شفائهم.

– انقطاع الموت مع استمرار التقدم في العمر سيسبب صعوداً صاروخياً للشيخوخة والعجز؛ سينقلب هرم الأعمار انقلاباً مأساوياً، وسيصير المجتمع مكوناً من عدد هائل متزايد من الشيوخ العاجزين، والذين يحتاجون إلى رعاية مستمرة. تلك الرعاية المستمرة تتطلب تفرغاً من أيادي شابة تتناقص باستمرار وتُستنزف جهودُها، وهو ما ينذر على المدى الطويل بكارثة يصعب تصورها.

اعتمد الكاتب في عرضه لهذه التصورات على أسلوبه المعتاد، والفريد من نوعه، والذي يقوم على فقرات طويلة تمزج بين السرد والتأمل الفلسفي والحوار دون أي فاصل بينها، اللهم إلا علامةَ ترقيمٍ يتيمةً هي الفاصلةُ المسكينة. لقد تعرفتُ على هذا الأسلوب المتفرد للكاتب في روايته “العمى”، ثم إنه في روايته هذه “انقطاعات الموت” كان أكثر تجريداً وابتعاداً عن التفاصيل والأوصاف الشكلية، بحيث يمنح القارئ نظرة علوية بانورامية شاملة (عين الطائر)، ويحلِّق به، بسلاسة تامة، بين الأحداث والأشخاص والأماكن، حتى ليحسَّ الواحد بأنه استحال شبحاً مهوِّماً في فضاء المدينة المنكوبة بلعنة الخلود؛ يتنقَّل بنفس السهولة بين مخدع الملكة في القصر الملكي والأزقة والشوارع، بين اجتماعات الوزراء وبيوت الأفول السعيد، ثم يستمع إلى المكالمات الهاتفية بين الوزير والأسقف، أو بين الوزير وأعضاء المافيا… إلخ. وليس عبثاً أني استعملتُ هنا فعل الاستماع، إذ هو في الواقع الفعلُ الأكثر تعبيراً عن تجربة قراءة هذه الرواية؛ فمع التجريد الشديد للأسلوب، وانعدام أسماء الشخصيات، بل وانعدام عامل الوصف بشكل كلي تقريباً، تحولت الرواية إلى شيء أشبه بهلوسات الأحلام أو بشريط صوتي مستمر (ربما أسميها “الرواية الصوتية”). هي روايةٌ تُسمع أكثر مما تُقرأ، تنبعث من سطورها وفقراتها أصوات حوارية متداخلة تكاد تكون مجهولة المصدر، ولا يتدخل الكاتب للانتقال من مكان إلى آخر، أو من متكلم إلى آخر إلا في أضيق الحدود.

أذكر هنا أن الكاتب خرج عن أسلوبه “الصوتي” مرة واحدة فقط في النصف الأول من الرواية، حين روى لنا -بالطريقة السردية المعتادة- كيف تجرأت أسرة ما على نقل مريضين منها إلى خارج حدود البلدة ليموتا هناك. ولم يفت الكاتبَ أن “يعتذر” من القارئ على حكايته للواقعة بأسلوب سردي “ولَّى زمانه”، لكن الحادثة كانت من الأهمية بحيث استحقت أن يُكسى سردُها بتفاصيل كافية، ذلك لأنها فتحت الباب لتقدُّم نوعي في القصة، بعد أن شاع في الناس تكيُّف أخلاقي جديد سمحوا لأنفسهم بموجبه أن ينقلوا مرضاهم إلى خارج حدود البلدة ليموتوا هناك. عارضت الحكومة بشدة هذه النزعات الجديدة، فيما انبثقت من الشعب منظمة سمَّت نفسها “المافيا Maphia”، وكرَّست نفسها لتقديم خدمات الموت للراغبين في ذلك، وهو ما خلق أزمات حادة جديدة بين الحكومة والمافيا، ناهيك عن البلد المجاور الذي اعترض على انتهاك أرضه، فضلاً عن رغبة أناس أجانب طامعين في الخلود في الهجرة إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم من الموت.

لا نستطيع، وسط أمواج الافتراضات المتلاطمة هذه، أن نفلت من أسئلة منطقية بريئة تطرح نفسها، وربما تسوِّل لنا حماقتنا أن ننتظر من ساراماغو تبريراً منطقياً مقنعاً. مثلاً: ماذا لو قُطع رأس إنسان ما داخل البلدة؟ كيف سيستمر في العيش مقطوع الرأس؟ انتظرتُ -ويا لحماقتي- أن يعرض ساراماغو لاحتمال كهذا، لكن كلُّ ما فعله كاتبنا العتيد أن طرح تساؤلاً “طبياً” مشروعاً حول إمكانية استمرار الحياة في إنسان مبقور البطن تتدلى أحشاؤه خارج جوفه! هذا هو التنازل الوحيد الذي قدَّمه ساراماغو ليعترف بما قد يكون في خياله من تناقض، ولأن ساراماغو هو آخر كاتب يمكن أن يُحاسَب على تناقضاته فليس على القارئ المسكين إلا أن يخرس، وأن يواصل القراءة متذكراً دائماً أن الكاتب هو ساراماغو، وأن ساراماغو يقول ما يشاء متعالياً عن كل تعقيب، متسامياً عن كل نقد.

في خضم هذه الرؤى البانورامية القائمة على افتراض تداعيات منطقية متخيَّلة، تظهر قُبيل منتصف الرواية شخصية “موت”، في انتقال مفاجئ وصادم من الخيال العقلاني إلى الفانتازيا الصريحة. يتضح لنا فجأة أن انقطاع الموت كان نتيجة رغبة مزاجية من شخصية شبحية عاقلة هي “موت”، أو المعادل الروائي لقابض الأرواح في المعتقدات الدينية، وأن “موت” (وهي شخصية أنثى باعتبار أن لفظ morte مؤنث) قد وقعت في الحيرة والتخبط، وأنها تراجعت فجأة عن قرارها بكفِّ منجلها عن حصد الأرواح، ثم قامت بتعديل القرار بحيث صارت تُعلم برسالة بنفسجية كلَّ من بقي في عمره المقدَّر أسبوعٌ واحد.

هنا ننتقل إلى النصف الثاني من الرواية، والذي يختلف اختلافاً جذرياً عن نصفها الأول حتى لكأنه رواية مستقلة. انتقل الكاتب من “الماكرو سرد” إلى “الميكرو سرد” (أتجرأ كعادتي على سكِّ اصطلاحاتي النقدية الخاصة)، أعني من الرؤية الشاملة والتحليق الشبحي الحر في أجواء المدينة إلى قصة جزئية حول علاقة غريبة بين “موت” وعازف كمان بشري.

يتضح لنا في النصف الثاني من الرواية أن “موت” شخصية مزاجية متقلبة، وأنه يجوز عليها السهو والخطأ، وأنها خاضعة لسلطة مجهولة أعلى منها، مستكنةٍ في تعاليها الصامت، وأنها كذلك عرضة لانفعالات نفسية تذكِّرنا بنواقصنا البشرية. لقد انحدر الكاتب في نصف الرواية الثاني (ويا لها وقاحةً مني أن أستعمل هذا الفعل في حضرة ساراماغو) إلى أسلوب السرد المعتاد ذاك الذي “ولَّى زمانه”، فروى لنا كيف أن خللاً حدث في إرسال الرسائل البنفسجية نتج عنه عودة إحدى تلك الرسائل، وبتتبع الخيوط تعلم “موت” أن عودة الرسالة ناتجة عن “خطأ إداري” يصعب تداركه، ما اضطرها إلى التنازل عن كبريائها الأزلي، والذهاب بنفسها لتسليم رسالة الموت إلى مستحقها (يذكِّرنا هذا بأجواء مسلسل الأنيمي “مذكرة الموت Death Note”).

تتخذ “موت” جسداً بشرياً أنثوياً فاتناً (فهي قادرة على التشكل)، وتنشأ علاقة معقدة شديدة الغرابة بينها وبين عازف الكمان. ثمة ما يشير إلى أن رابطة رومانسية أو شبه رومانسية قد نشأت بينهما، لتنتهي الرواية بمشهد ملغز قد يُفهم منه أن “موت” ماتت في نهاية المطاف، وهكذا خُتمت الرواية بنفس العبارة التي افتُتحت بها: “في اليوم التالي لم يمت أحد”، وهي عبارةٌ وإن بدت مرحة متفائلة في مطلع الرواية، فإنها تحولت في ختامها إلى واحدة من أشد النهايات الروائية رعباً ومأساوية على الإطلاق.

إن كان انقطاع الموت في بداية الرواية ناتجاً عن سلوك مزاجي متعمَّد من شخصية “موت”، فإن انقطاعه في النهاية ناتج عن فناء الموت نفسه، حيث نواجه، في رعب شديد، حقيقة أنْ لا أحد بعد الآن سيقبض أرواح البشر، ومن ثمَّ سيكون على البشرية أن تواجه مصيراً تعجز العقول مهما تشاءمت أن تتصور مدى سوداويته.

هي إذن روايةٌ في مديح الموت، كأن كاتبها يفتح ذراعيه له مرحِّباً به، متصالحاً معه ومعتذراً منه عن سوء ظنه به، وواجداً فيه خلاصاً شخصياً هو في حقيقته خلاص للبشرية جمعاء.

هي رواية ستظلُّ صامتاً مجمَّد الحواس مشلول التفكير للحظات بعد قراءة سطرها الأخير، وستنتابك هواجس شتى وسيدبُّ في أعماق نفسك خوفٌ غامض، ثم ستتذكر أن كل ما قرأتَه خيالٌ محضٌ مستحيل التحقق، حينئذ ستتنهَّد بارتياح وتقول في نفسك: حمداً لله على نعمة الموت!

أنس سعيد محمد

27/04/2021

أشياء غير مكتملة – محمد بدازي

20/04/2021 عند 16:39 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

رواية: أشياء غير مكتملة

لمؤلفها: محمد بدازي

البلد: المغرب 🇲🇦

صدرت عام: 2020

.

=====

* مقدمةحول دلالة العنوان:

أشياء غير مكتملة…

ما الذي يوحي به هذا العنوان يا ترى؟ وأي أفق انتظار يكشفه أمام القارئ؟

لعل الذين اطَّلعوا على المناظرة الشهيرة في كتاب “الحيدة والاعتذار” يذكرون إلى أي حدٍّ يمكن أن يتسع مدلول لفظة “شيء”، كما أن “عدم الاكتمال” هو صفة لازمة حرفياً لكل “شيء” كائناً ما كان، ومن ثمَّ فعنوان الرواية هو من أكثر العناوين اتساعاً على الإطلاق، وهو باتساعه يدلُّ على “كل شيء” بنفس القدر الذي لا يدلُّ فيه على “أي شيء” بتاتاً.

لا نستطيع إذن، بإزاء هذا العنوان الواسع في دلالته إلى حدِّ انعدام الدلالة، أن نكوِّن أي تصور حول محتوى الرواية، لذلك ننتقل إلى غلافها الخلفي علَّنا نجد معْلماً نستأنس به، وبالفعل نجد هذه الفقرة التي أنقلها لكم بحرفها:

“إن نصَّ الرواية هذا، هو بكيفية ما، شهادةٌ على مرحلة من وجودنا، أو وعينا، تخلَّينا فيها عن كل ما هو روحي. ونقصد بالروحي هنا: الدين، التأمل، التدبر، الموسيقى الروحية، الطقوس، العائلة… وحصرنا حياتنا فقط فيما هو مادي ميكانيكي، فكانت النتيجة أن أصبحنا آلات ميكانيكية خاويةً من مشاعر الحب والحنان والامتنان والأمان”.

هذه الفقرة التي تكاد تكون وعظية مباشرة، وعلى النقيض تماماً من عنوان الرواية، تكشف لنا عن “كل شيء”، وتضعنا رأساً أمام خلاصة الرواية وعصارة فحواها. هي إذن رواية حول صراع المادة والروح، حول مأساة الإنسان حين يتخلى عن الجانب الروحي ليجد نفسه وحيداً في عراء العالم المادي المجرَّد من المشاعر. قد تبدو هذه الفكرة (أعني صراع المادة والروح) مبتذلة للقارئ المتعجل، لكنها في الحقيقة من أكثر الأفكار المرتبطة بوجودنا الإنساني عمقاً، بل لعلها الإطار الشامل لكل الحالات الإنسانية بما تتضمنه من الأفكار والمشاعر والمواقف.

* بين الكاتب والسارد: هل كل رواية هي سيرة ذاتية؟ 

شاعت في أوساط الكتاب الروائيين مقولة تفيد الفصل التام بين المؤلف والسارد، وتطرَّف بعضهم في ذلك حتى جعلوا أي مقاربة بينهما خطأً نقدياً فادحاً ودليلاً على سطحية القراءة. وأنا أعتقد أن فكرة الفصل بين المؤلف والسارد هي نوع من التواطؤ الخفيِّ بين الكتَّاب، وشكل من أشكال التعاقد غير المكتوب الذي يتيح لهم حرية مطلقة في الكتابة، دون أن يتعرضوا لمخاطر الشخصنة والتأويل والافتضاح وكل ما من شأنه أن يمسَّ بكرامتهم.

لا! بل كلُّ رواية هي سيرة ذاتية بشكل من الأشكال، لكن ينبغي هنا أن نميز بين ثلاثة مستويات من التأويل مرتبطةٍ بالاختيار الروائي نفسه:

– المستوى الأول: الرواية الموضوعية. وهي الرواية التي يتناول فيها المؤلف قضايا مستقلة عن ذاته وتفاصيل حياته الخاصة، ويعرضها في الغالب بضمير الغائب. الحديث هنا حول الروايات التاريخية مثلاً، أو التي تتناول موضوعاً محدد الإطار (قضية سياسية أو اجتماعية أو غير ذلك). هنا لا نكاد نجد أثراً لشخص المؤلف الذي يأخذ دور الراوي العليم المحايد (أو الذي يبدو محايداً)، ومن ثمَّ قد يبدو من السخف اعتبار هذا النوع من الروايات “سيرة ذاتية”. لكن حين نتأمل الأمر، نجد أن ملامح السيرة الذاتية حاضرة حتى في هذا النوع من الروايات، وتتمثل ابتداءً في اختيار الموضوع الروائي، ثم طريقة معالجته والجهود البحثية المبذولة، ثم المصائر التي اختارها الكاتب لشخوصه والتي تُستشفُّ منها مواقفه ورؤاه. الروائي لا يختار مواضيع رواياته عبثاً، بل إنها تعبِّر عن حقول اهتمامه، وأسلوبُ معالجته لها يعبر عن قدراته الأدبية، ومصائرُ الشخوص تعبِّر ولو بشكل موارب عن مواقفه من القضايا المعالَجة، وبالتالي فإن الرواية الموضوعية، ومهما بدت محايدة، فهي بشكل ما جزء من السيرة الذاتية لمؤلفها.

– المستوى الثاني: السيرة الذاتية الكلية. وأعني هنا السيرة الذاتية الصريحة التي يُعلن عنها في غلاف الرواية. ربما لا حاجة للحديث عن هذا المستوى لأنه يعبِّر عن نفسه، كما أن سؤال (هل هذه سيرة ذاتية؟) لا يعود مطروحاً هنا بقدر ما تنطرح أسئلة أخرى حول مصداقية الأحداث المروية، وهذا موضوع آخر مستقل.

– المستوى الثالث: السيرة الذاتية الجزئية. وهي الرواية التي لا يعلن كاتبها أنها سيرة ذاتية، بل قد يعلن عكس ذلك لائذاً بالمقولة سالفة الذكر (العقد غير المكتوب بين الروائيين)، لكن القارئ يستشفُّ جوانب السيرة الذاتية عبر قرائن مساعدة، وعبر المطابقة بين بعض ما يقرؤه في الرواية (والتي تكون غالباً بضمير المتكلم) وبين ما يعرفه عن الكاتب سواء من خلال علاقته الشخصية به أو من خلال ما ينثره في حساباته الرقمية من المعالم الدالة على شخصيته وتوجهاته وميادين اهتمامه.

لا شك عندي أن رواية “أشياء غير مكتملة” تنتمي إلى المستوى الثالث، وهو مستوى يصعب التعامل معه لصعوبة التفريق فيه بين الواقع والخيال، ولعدم جدوى ذلك فيما يخصُّ نسبة الأحداث إلى الكاتب ما دمنا نتعامل مع نص أدبي وليس مع حقائق توثيقية. الكاتب في هذا المستوى قد يلجأ إلى تأليف أحداث خيالية تماماً، لكن تلك الأحداث الخيالية تعبر عن “سيرته الذاتية” بنفس القدر الذي تعبر عنها الأحداث الحقيقية، وتفسيرُ ذلك أن الأحداث الخيالية ما هي إلا تعبير عن أمنيات أو مخاوف دفينة، وعن رؤى وأفكار مستخرجة من العقل الباطن للكاتب، ومن ثمَّ فهي تشير، أيضاً، إلى “سيرته الذاتية” وإن بشكل غير مباشر.

خلاصة القول، وحتى أتخذ موقفاً وسطاً بين من يجحد أية رابطة بين المؤلف والسارد، وبين من يتطرف في نسبة كل حدث في رواية إلى المؤلف، فإني أقول بأن روايات “المستوى الثالث” هي سيرٌ ذاتية فكرية وشعورية، لا مفرَّ للكاتب من اعتبارها على هذا النحو، وأما مصداقية الأحداث الواردة فيها فهي لا تعني القارئ في شيء، ويجب أن يُنظر إليها على أنها نصوص أدبية فحسب دون أي تفتيش إضافي، ولا أدلَّ على ذلك من أن السارد في هذه الرواية، ومهما بلغ تطابقه الظاهر مع المؤلف، قد انتحر في نهايتها، فيما المؤلف لا يزال بيننا حياً يُرزق.

* رؤية عامة للرواية:

لم أكد أتمُّ قراءة الفصول الأولى من الرواية حتى وقع في ذهني أن الدافع لكتابتها لم يكن روائياً بالدرجة الأولى، بل هي محاولة تنفيس وانعتاق، إرادة بوح وسعيٌ للتخلُّص من عذابات نفسية ممضَّة. رغبة شديدة في الصراخ والتعبير عن الذات، بل والبحث عن أذن مصغية متفهمة.

رسالة استغاثة؟ لا أنكر أني استشعرتُ ذلك في بعض المقاطع، وعلى العموم فقد بدا لي واضحاً أن الجانب القصصي لم يكن مربط الفرس في الرواية، بل جانبُ البوح والتعبير عن التجربة الفكرية والذاتية، وهو ما لم يفتأ يعبِّر الكاتب عنه في جلِّ الاقتباسات التي صدَّر بها فصول روايته، إذ كان معظمها يدور حول فكرة واحدة هي الدافع إلى الكتابة وعلاقتها بالآلام النفسية التي تنخر في أعماق الكاتب.

استرسل الكاتب في مطالع روايته في سرد خواطره النفسية على حساب الأحداث القصصية، وهي هفوة روائية معروفة إذ يُفضَّل البدء بالأحداث وتأجيل الخواطر إلى وقت لاحق، لكن الكاتب كان مسكوناً برغبة بوح عنيفة جعلت عنصر “القصة” في روايته مجرد عنصر ثانوي مساعد، وليس عنصراً رئيسياً يقوم منها مقام الهيكل العظمي.

وأما القصة في ذاتها، فهي قصة “الروبيو” الذي وقع فرسية أسئلة وجودية محيرة تحولت إلى قلق فلسفي أفقده إيمانه، فارتمى في أحضان الملذات الحسية حتى أُتخم بها، وكما هي العادة في أمثال هذه القصص فإن الخواء الروحي القاتل هو ما ينتظر بطلها في النهاية، حينئذ نكون على موعد مع العدمية والعبثية والاكتئاب الحاد والجريمة والانتحار، وهو ما عبَّر عنه الكاتب ببراعة في الصفحة 176 حيث قال:

“أصبحت أميل إلى كل ما من شأنه أن يدمِّر الروح والجسد ويفتك بهما. سهر، خمر، حشيش… بتُّ أنسى كثيراً، أغضب بلا سبب وأفرح بدونه، أُسقط -دون قصد- ما يوجد في يدي سواء كان ماعوناً أو حاسوباً أو هاتفاً أو قلماً أو سيجارة”.

ذكَّرني هذا المقطع بفكرة “إرادة الموت” أو “الانتحار السلبي” التي عبَّر عنها أحمد خالد توفيق في إحدى رواياته؛ المنتحر السلبي لا يقدم على قتل نفسه (بسبب الوازع الديني أو نقص الجرأة)، لكنه يتوقف عن المبالاة بحياته، لا يهمه أن يصحَّ أو يمرض، وإذا مرض لا يهمه أن يشفى أو أن يدوم مرضه. لا يأخذ دواءً ولا يبذل جهداً للشفاء، بل يتمنى أن يكون مرضه ذاك آخر عهده بالحياة.

هاروكي موراكامي تطرق لهذه الحالة الدقيقة في أواخر الكتاب الثاني من ثلاثية 1Q84، حين قال على لسان “تنغو” متحدثاً عن أبيه: “هذا الرجل يحاول أن يموت”، وما كانت “محاولة الموت” تلك إلا استغراقاً في نوم متواصل جعل المؤشرات الحيوية لجسده تتراجع دون سبب عضوي واضح، وقد شبَّه الكاتب هذه الحالة بالقطار الذي تتباطأ سرعته تدريجياً تمهيداً لتوقفه النهائي.

كان المؤلف واعياً بالحساسية الشديدة لموضوع روايته، لارتباطه بالمقدس الديني الذي زهد فيه بطلها بعد أن أضاع إيمانه، ولتطرقه لطابوهات حساسة من قبيل الشك والإلحاد والانتحار، وكذا للحضور الجنسي الكثيف بشكل مبالغ فيه أحياناً. لذلك نلمس في بعض جوانب الرواية ما يكاد يشبه “محاولات الاختباء”، وأعني هنا -مثلاً- الفقرة التي تقدَّم نقلها والموجودة في ظهر الغلاف، وهي فقرة استطاعت بكلمة واحدة فقط هي “الدين” أن تنقل الرواية إلى تصنيف مختلف تماماً، لتصير أشبه ما تكون برواية وعظية تحذِّر القارئ من عاقبة الانسياق وراء المادة على حساب الروح. وهناك كذلك ما أسماه الكاتب “روايته المزعومة”، وهي رواية داخل الرواية يؤلفها السارد “الروبيو” وليس الكاتب “محمد بدازي”، فلكأني بالكاتب أراد أن يضيع القارئ في طبقات من السرد بعضها فوق بعض، حتى يخلق بينه وبين بوحه مسافة مضاعَفة (نستحضر هنا الأحلام التي نستيقظ منها لنجد أن استيقاظنا جزءٌ من حلم آخر).

* الحضور الجنسي في الرواية:

لا نستطيع أن نخطئ التأثر الواضح للكاتب بأسلوب محمد شكري في جوانب عديدة، وهناك كتَّاب آخرون صرَّح الكاتب بتأثره بهم لكني لم أقرأ لهم (محمد برادة مثلاً). الفجاجة الجنسية (على الطريقة الشكرية) كانت حاضرة بقوة في الرواية إضافة إلى عوامل تشابه أخرى كدخول السجن الذي يصير محفزاً لتقدُّمٍ إبداعيٍّ ما (تعلم القراءة والكتابة عند شكري، وتأليف “الرواية المزعومة” عند السارد). لكن من الخطأ أن نحصر الوجود الجنسي في الرواية بتأثر الكاتب بعوالم محمد شكري، ذلك أن الإباحية في الأدب الروائي تنقسم إلى نوعين رئيسيين: النوع الأول هو الإباحية الفجة، الشوارعية، القذرة، المجردة تماماً من أي حسٍّ أخلاقي أو شعور إنساني. والنوع الثاني هو الإباحية الرومانسية، العاطفية، والتي تسبغ على الفعل الجنسي الموصوف سماتٍ جماليةً وشاعرية.

محمد شكري تخصص فقط في النوع الأول، وهو نوع لا يستهدف أية إثارة للغرائز بقدر ما هو استعراض لقوة البذاءة على طريقة مراهقي الشوارع (الأقوى هو الأشدُّ بذاءة والأجرأ على استخدام أحطِّ الألفاظ). وأما كاتب روايتنا هذه فقد اعتمد النوعين معاً، وبشكلٍ جعل الحضور الجنسي في روايته يبدو متناقضاً جداً، فأحياناً نقرأ أوصافاً شوارعية فظة شديدة الفجاجة، ثم نقرأ بعد قليل أوصافاً شاعرية متأنية تُشعرنا بأن الكاتب كان يتلذذ بنثر الأوصاف الجنسية ربما بقدر التذاذه بممارسة جنسية حقيقية.

هذا التعمد الواضح في إقحام الجنس، وبشكل مفرط أحياناً، لم يخدم الرواية بقدر ما أساء إليها، وذلك لما يوحي به من معاني “الأدب التجاري” و”المراهقة الأدبية” وحتى الرغبة في استعراض الجرأة والبراءة من تهمة “الأدب الملتزم”.

الجنس موضوع إنساني حيوي متعلق بقضايا نفسية واجتماعية كثيرة، ويصلح دون شك للمعالجة الروائية، لكن المعالجة الروائية السليمة له هي التي تضعه في موضعه الطبيعي تماماً دون إنكار لوجوده من جهة، ودون مبالغة في الاستعراض المسفِّ من جهة أخرى.

* اللغة والأسلوب:

ليس هناك كثير مما يقال حول جانب اللغة في الرواية، سوى أن الكاتب يتمتع بأدوات لغوية كافية أسعفته لأداء معانيه. كانت تجربة قراءتي من الناحية اللغوية تجربة سلسة منسابة، وإن لم تخلُ من مطبَّات من الأخطاء اللغوية. وأشير هنا إلى مسألة طريفة متعلقة بشكل الكلمات؛ فقد اعتنى الكاتب، مشكوراً، بإضافة حركات الشكل إلى عدد كبير من الكلمات، ليس لأغراض زخرفية لكل لغرض الإبانة. الطريف أن كثيراً من حركات الشكل كانت خاطئة، وأن تلك الكلمات لو أبقاها الكاتب دون شكل لظلت صحيحة، وبذلك أسهمت مبادرته للشكل في زيادة عدد الأخطاء اللغوية في روايته، وهو أمر كان بوسعه أن يتجنبه لو بحث عن الشكل الصحيح أكثر، أو لو تركها على أصلها غير مشكولة.

* خاتمةلا سن محدداً للسيرة الذاتية:

على خلاف ما يصرح به كثير من “الديناصورات الأدبية”، فإن أدب السيرة الذاتية متاح لكل الأعمار، بل أجازف بالقول بأنه مطلوب في كل المراحل العمرية، ولاعتبارات أدبية كثيرة أبرزها أن الإنسان يكون أقدر على التعبير عن حالاته الشعورية حين يكون في إبانها، أو حديث العهد بها على الأقل، وأنه لو انتظر حتى بلوغه سن الشيخوخة، وحتى لو راكم من الإنجازات ما يتيح له الكتابة عن نفسه، فإن سيرته الذاتية حينئذ ستتخذ شكلاً موضوعياً تقريرياً بارداً، وستقع في فخ البلاغات الإنشائية التي كثيراً ما تخدش عفوية الوصف وصدقه. ولعل هذا ما يفسِّر تلك الهالة الغامضة التي تحيط بالكتابات العفوية، بل وحتى بكتابات الأطفال حين يعبِّرون عن ذواتهم، وهي هالة غالباً ما تُفقد في كتابات “الكبار” الذين جفَّفت الحياة منابعهم الشعورية، وتخلَّل وجدانَهم النسيانُ الذي يمسي حائلاً بينهم وبين ذواتهم القديمة.

كانت رواية “أشياء غير مكتملة” كما وصفها كاتبها: شهادةً على مرحلة من وجودنا تخلَّينا فيها عن كل ما هو روحي، وحصرنا حياتنا فقط فيما هو مادي ميكانيكي، فكانت النتيجة أن أصبحنا آلات ميكانيكية خاوية من مشاعر الحب والحنان والامتنان والأمان.

وليغفر لي الكاتب “إمساكي” بهذا المقطع الذي ذُيِّل به غلافُ الرواية، لكن ذلك لما رأيته فيه من خيط أملٍ في العودة إلى الفطرة الأولى، ومن حنينٍ إلى الأصل الإنساني المعتدل في توازنه بين المادة والروح، ومن كون الرواية في مجموع أفكارها عملاً أدبياً في ذمِّ الفلسفة.

أنس سعيد محمد

20/04/2021

مغالطات لغوية – عادل مصطفى

30/03/2021 عند 18:10 | أرسلت فى كـتـب وروايـات | أضف تعليق

كتاب: مغالطات لغوية

لمؤلفه: عادل مصطفى

البلد: مصر 🇪🇬

صدر عام: 2016

.

=====

لم أتردد لحظةً في قراءة هذا الكتاب فور أن علمتُ بوجوده، كيف لا وقراءتي لكتابه “المغالطات المنطقية” كانت من أفضل تجاربي القرائية وأكثرها إمتاعاً وإفادة؟ ليس على المستوى العلمي فقط بل حتى على المستوى الأدبي.

“مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة”… عنوان موحٍ بوجود مشكلة لغوية ما، وأسئلة تحتاج إلى إجابات، وأشياء في النفس قد يُحجم عن ذكرها اللسان، وقلقٍ لغوي يرخي بظلاله على حلمات التذوق للعربية وأسلوب الكتابة بها.

كيف نقرأ ما كُتب بالعربية؟ وبأي أسلوبٍ نكتب العربية؟

هل نكون أفضل خدمةً للعربية لو مِلنا كل الميل نحو لغة التراث العتيقة مديرين ظهورنا لكل أسلوب حديث؟ أليست أساليب اللغة الحديثة، بجمالياتها التي لا تُنكَر، شاهدةً على مرونة العربية وقدرتها على التكيف مع متغيرات العصور؟ ما الحد الفاصل بين احترام ثوابت اللغة وتطويرها بما يتلاءم مع مستجدات العصر؟ ما الضرر من بعض “الأخطاء الشائعة” حين يقع إجماع شامل على فهم معناها؟أيُّما أفضل: خطأ مشهور أم صواب مهجور؟ هل نعرِّب الألفاظ الأجنبية ونخضعها لقوالب العربية أم نبحث في قواميسنا التراثية عن أصولها اللفظية رافضين أي تعريب؟ ما موقفنا من العامي الفصيح؟

لماذا نستشعر نغماً جميلاً محبباً إلى النفس في بعض التراكيب العربية المخلخلة نحوياً، في حين تبدو بعض التراكيب “الصحيحة” ثقيلة منفِّرةً تستشعر النفسُ نقصَ شيء فيها أو زيادته؟

أسئلة كثيرة طالما شكَّلت عندي حالة نفسية سمَّيتُها “القلق اللغوي”، على غرار “القلق الفلسفي”، وطالما انعكست بآثار لها على استقبالي لما أقرأ، وأسلوبي فيما أكتب، فجاء هذا الكتاب برداً وسلاماً، وبلسماً مداوياً لأكثر أعراض ذلك القلق، بل أستطيع القول بأن الكتاب “أنقذني” من مزالق كثيرة كدتُ أقع فيها، بل إني وددتُ لو أعدتُ كتابة كثير مما كتبتُ على ضوء ما استفدتُه من سطور هذا الكتاب الذي أخذ بيدي أخذاً رفيقاً، وأعادني إلى فطرتي اللغوية الأولى، إلى تلك السليقة الصافية المتحررة من الأغلال النحوية الثقيلة.

* التضخم اللفظي في اللغة العربية:

وصف الكاتب العربية بأنها لغة جسيمة هائلة الجِرم، لكنه وعلى خلاف الكثيرين لم يفاخر بهذه الضخامة بل انتقدها، وكان انتقاده مبنياً على بحثه في أصولها وأسبابها الراجعة إلى عصر التدوين المتأخر نسبياً؛ فبعد أن اختلط العرب بغيرهم إثر الفتوحات الإسلامية حصلت لهم عُجمة بسبب تأثرهم بلغات الأجانب، لذلك انبرى أناس لتجميع مادة العربية لغرض حفظها من الاندثار، فارتحلوا إلى القبائل العربية المتباعدة، وقابلوا البدويين الذين لم تختلط لغاتهم بالمؤثرات الخارجية، ومضوا يأخذون عنهم ألفاظهم ويدوِّنونها على أنها “لغة عربية سليمة”، ومن ثمَّ حصل تراكم هائل في المترادفات، وفي غريب اللغة وحوشيِّها، وفي الأسماء المتعددة للشيء الواحد، والتي ترجع في الواقع لاختلاف لهجات القبائل.

لقد نشأ بعد ذلك وهمٌ بأن العرب كانوا بالفعل يعرفون مئات الأسماء للأسد والسيف والناقة، لكن الواقع أن أسماء الأسد والسيف والناقة تعددت بتعدد القبائل العربية وتباعدها، وأن لكل قبيلة لهجتها الخاصة التي تشترك وتختلف مع غيرها، وأما وجود لغة عربية شاملة لكل الألفاظ المعجمية، حيث كان عرب زمانٍ ما يتكلمون بها كلَّها فهذا شيء لا وجود له إلا في بعض الأوهام.

يرى الكاتب أن التضخم اللفظي قد أضرَّ باللغة ولم يخدمها، بل إن له شواهد من اقتباسات تراثية تدلُّ على أن عرب القبائل ربما تفطَّنوا لأغراض الرواة الذين يختلفون إليهم لأخذ اللغة عنهم، وربما أكرموهم بالمال أو نحوه، ولما أحسوا بولعهم بالغريب فربما اخترعوا لهم ألفاظاً يرضونهم بها ويستدرُّون كرمهم، مما قد لا يكون له أصل أساساً.

* اللغة العربية بين التوقيف والاصطلاح:

عرض الكاتب لنظريتين محوريتين حول نشأة اللغة؛ التوقيف والاصطلاح.

يرى أصحاب نظرية التوقيف أن اللغة وحيٌ منزَّل من السماء، أنها مخلوق إلهي دال على عظمة الله، وأنْ ليس على الإنسان إلا أن يتأمل فيها بديع صنعه (يستدلون على ذلك بقوله تعالى: “وعلَّمَ آدم الأسماءَ كُلَّها”). وأما أصحاب نظرية الاصطلاح فيرون أن اللغة اختراع بشري لا يختلف في شيء عن العادات والتقاليد، وأن الألفاظ اللغوية لا تعدو أن تكون صوتاً نطق به إنسان قديم ما ليدلَّ به على شيء، ولما فُهم عنه وقع “اصطلاحٌ” على ربط الدال (العلامة اللغوية) بالمدلول (الشيء المسمى).

هذا الاختلاف ليس نظرياً فحسب كما يبدو عليه، وليس من باب الترف المعرفي، بل تترتب عليه آثار فكرية ملموسة، ومواقف لها تأثير مباشر على وضعية اللغة في كل مرحلة من مراحل التطور التاريخي. التطرف في الاعتقاد بنظرية التوقيف سيقود حتماً إلى الجمود اللغوي ورفض أي تطوير، بل قد يصل إلى اتهام المجددين للغة بفساد العقيدة وسوء الطوية، وكذلك فالمغالاة في اعتقاد الاصطلاح قد تلغي أي احترام للغة العربية، وقد تنحو بأصحابها إلى إسالتها ومحاولة تذويبها تمهيداً للقضاء عليها.

بوسع الإنسان بطبيعة الحال أن يتبنى موقفاً وسطاً بين التوقيف والاصطلاح، قد يكون جزءٌ من اللغة وحياً إلهياً حقاً عُلِّمَهُ آدمُ عليه السلام، وقد يكون جزءٌ منها ناتجاً عن الاصطلاحات البشرية، كما أن نظرية التمثيل الصوتي “الأونوماتوبيا” تبدو وجيهة حقاً في التأصيل لكثير من الأفعال التي تبدو مطابقة للأصوات الطبيعية الصادرة عنها، لكن تعميمها على اللغة كلِّها مجازفة وتكلُّف يرفضه العقل.

لا غرابة في أن الكاتب كان أكثر ميلاً نحو نظرية الاصطلاح، لأنها أكثر توافقاً مع نظرية التطور التي يصدِّق بها، وأبعد عن الغيبيات التي تعارض مناهج التفكير المادية المسيطرة عليه، لكن ذلك الميل لم يجنح به -والحمد لله- إلى امتهان اللغة ومحاولة تذويبها، بل لقد أبان رغم ذلك عن احترام عميق لها، وتعظيم لفصاحتها وقدرتها على البيان، وأقر بتفرُّد جذرها الثلاثي العجيب وتفوقها من معظم الوجوه على كافة اللغات الأخرى.

* التضخم النحوي في اللغة العربية:

لعل كثيراً من المدافعين عن العربية في أيامنا هذه يلجؤون إلى قواعدها النحوية باعتبارها دليلاً على عظمة اللغة وعلو شأنها، وربما نحا بعضهم إلى المغالاة في تخطئة التراكيب وفي “قل ولا تقل”، دون أن يعلموا أنهم بمنهجهم هذا واقعون في تناقض كبير، وأنهم يدافعون عن العربية من منطلق غير عربي.

كان العرب القدماء يتكلمون العربية بالسليقة، إذ هي اللغة التي فتحوا عليها أعينهم ورضعوها مع حليب أمهاتهم، وكانوا يستشعرون أنغامها بفطرتهم، وينظمون الشعر على السجية دون أن يعرفوا بُحوره وأوزانه. ثم جاء في العصر العباسي أناس من الموالي، من غير العرب، فأخضعوا العربية لبحث علمي تجريبي اعتمدوا فيه على المنطق العقلي الأرسطي (وهو غير عربي المصدر)، فاكتشفوا بذلك أوزان الشعر وبحوره، ووضعوا قواعد النثر، وصار للعربية إهاب من القوانين واضح المعالم، من شأنه أن يعصم المتكلم بها من اللحن، وأن يقوِّم الألسنة والأقلام في زمن صارت فيه مهددة بالغزو اللغوي الخارجي.

لقد كان خليقاً بعلم النحو أن يظل في موقعه الطبيعي خادماً للغة، لكن الذي حدث أنه تضخَّم وتعملق وتغوَّل، ثم كبَس على جسم اللغة خانقاً إياها، قاطعاً أنفاسها، فكاد يتركها جثة هامدة محنَّطة لا حراك بها. صار الفرع أصلاً، ووُضعت العربة أمام الحصان، وأمسى النحو حاكماً للغة بدل أن يكون محكوماً بها، وهكذا تولَّدت اختلافات شتى وحروب لغوية ما كان أغنانا عنها، وبتطاول الأزمان توهَّم كثيرون أن حفظ اللغة لا يكون إلا بالتشدد في القولبة النحوية، فكانت النتيجة ظهور دعوات ظاهرُها حماية اللغة وباطنُها تحنيطُها، والتحنيط لا يكون إلا لميت.

يعتقد غلاة النحويين ومن لفَّ لفَّهُم أن اللغة العربية كائن ثابت على حال، وينبغي له أن يظل ثابتاً على ما كان عليه في نقطة محددة من التاريخ (ما هي بالضبط؟!)، فهم يرفضون أي ابتكار في الاشتقاقات اللغوية، فضلاً عن تعريب الألفاظ الأجنبية، ثم إنهم بمغالاتهم في التدقيق اللغوي وتنطُّعِهم فيه يكادون يخطِّؤون كل عبارة، وبإخضاعهم اللغة للمنطق وقعوا في الركاكات وأوقعوا الناس فيها.

هذا واللغة كانت ولا زالت سائرة في دربها، مرنة تتكيف مع كل وضع، وتتطور بتطور الزمان، غير خاضعة لشيء إلا لنواميس الطبيعة التي لا مبدِّل لها.

الروح العربية الحقيقية تقبل التطوير وتستوعبه، وأما علم النحو فقصارى ما يرومه أن يحيط بكلام العرب الفطري، ثم إنه يعجز عن ذلك فيتحوَّل عجزُه إلى تضخُّمٍ مرَضي في القواعد، وتناقضٍ فيها، وحروبٍ نحوية لا فائدة منها، وقد ضرب الكاتب مثالاً على ذلك بمفهوم “الضرورة الشعرية” الذي ينكره، باعتبار أنْ لا ضرورة في الشعر، وأنه ما من لفظ نطق به شاعرٌ إلا وكان بوسعه أن يستبدل به غيره، لكن الشعراء من العرب الأقحاح كان لهم سلطانٌ على اللغة، وهم إذا وضعوا في منظومهم ما يبدو أنه مخالف لقواعد النحو فالأصل ما وضعوه، وليس على النحو إلا أن يسمع ويطيع، وإلا كان فعلهم شبيهاً -مع الفارق طبعاً- بمن يخطِّئ بعض آيات القرآن الكريم بحجة أنها تخالف هذه القاعدة النحوية أو تلك (وفي القرآن “إنَّ هذان” و”حتى يقولُ الرسولُ”).

إن عظمة اللغة العربية كامنة في مدى مرونتها وقابليتها للتطور، وأيضاً في فطريتها وانسيابها، لذلك ينبغي تذكير غلاة النحويين وأتباعهم بأن تحنيط اللغة العربية بحجة الدفاع عنها هو منهج غير عربي الروح، تماماً كما أن النحو وإن كان عربي المنشأ فهو غير عربي المآل، واللغة الفصيحة أغنى منه وأرحب.

* نماذج من تصحيح الصحيح:

عرض الكاتب عدة نماذج مما شاع مؤخراً من تصحيح الصحيح، أو على الأقل من تخطئة ما له وجه يسوِّغه في اللغة، وذلك رداً منه على من أسماهم “هواة قل ولا تقل”، والذين قال عنهم في أكثر من موضع من كتابه: “يوشك هواة (قل ولا تقل) أن يغادروا الناس وهي لا تقول ولا تقول”.

كثير من تلك التخطئات الشائعة جاء نتيجة الغلو النحوي، وأيضاً نتيجة إخضاع اللغة إلى المنطق بشكل مبالغ فيه. نعم للغة منطق، لكنه منطق خاص قائم بذاته، ولا يوافق بالضرورة المنطق العلمي المادي الصارم، المنطق الأرسطي الذي يُمكن أن ننسبه إلى اليونان قديماً أو إلى الغرب حديثاً، لكنه حتماً ليس المنطق العربي. وقديماً قال الجاحظ: “للعرب إقدامٌ على الكلام، ثقةً بفهم المخاطَب من أصحابهم عنهم”.

نعم إن العربية تعتمد على الاستعارة والمجاز، وعلى الجناس والتضاد، وعلى اللمحة الخاطفة، والومضة الساحرة، وعلى التلويح والإشارة، وعلى التحوير والحذف، وعلى ما وصفه الكاتب بـ “تفجير أكبر طاقة من المعاني بأقل كتلة من الألفاظ”، ومن ثمَّ لا تعود المعالجة المنطقية مسعفة دائماً بل لعلها تثقل اللغة بأجسام دخيلة عليها، وما أكثر العبارات التي يتمُّ تصحيحها منطقياً ونحوياً، فإذا بها ركيكة ثقيلة تمجُّها الأسماع وتنفر منها النفوس، ولذلك قال الكاتب: “لكي نفهم الظاهرة اللغوية فإن علينا أولاً أن نتعوَّذ من وَسواس المنطق”.

النماذج التي أوردها الكاتب:

– مُتحف / مَتحف؟

– تقييم / تقويم؟

– نفس / عين؟

– هام / مهم؟

– تخرَّج من المعهد / تخرَّج في المعهد؟

– زوج / زوجان؟

– منسوب الماء / مستوى الماء؟

– يسري الحكم / يجري الحكم؟

– استضاف / أضاف؟

– استبدل القديم بالجديد / الجديد بالقديم؟

– اعتدَّ بنفسه؟

– انطلى؟

– رغم / على الرغم / بالرغم؟

– الرئيسي / الرئيس؟

– جيب؟

– لعب دوراً؟

– قناعة؟

– هل كذا أم كذا؟ / هل كذا أو كذا؟

– بمثابة؟

– كرَّس تكريساً؟

– حار / احتار؟

– بواسل / بسلاء؟

– كلل / كلال؟

– نوايا / نيات؟

– صدفة / مصادفة؟

– مستديم / مستدام؟

– المباشَر / المباشِر؟

– مُفاد / مَفاد؟

– تساءل / سأل؟

– ساهم / أسهم؟

– داهم / دهم؟

– أعتذر عن الحضور / أعتذر عن عدم الحضور؟

– نلعب في الوقت الضائع / نلعب في الوقت بدل الضائع؟

وأختم بمثال طريف لمتنطِّع زعم أن عبارة “ممنوع التدخين” خاطئة، وأن صوابها “التدخين ممنوع”!

* اللغة العامية والازدواج اللغوي:

ليست العامية بالضرورة مظهراً من مظاهر الانحطاط اللغوي، بل ما العامية إلا شكلٌ من أشكال التطور الطبيعي، والتلقائي، للغة الفصيحة. وهو تطور لا مفرَّ منه لأنه لصيق بالناس في أحوالهم الاعتيادية وحيواتهم اليومية.

لم يفرض أحدٌ على الناس قواعد لغاتهم العامية، وإنما ابتُكرت أساليب الكلام العامي عن طريق أشكال من الاقتصاد اللفظي والذهني، عبر إلغاء الإعراب وتسهيل الصرف، وعبر حذف بعض الحروف والكلمات أو إدغام بعضها ببعض. ثم إنها رغم تحررها من القواعد الفصيحة تؤدي مهمة التواصل على الوجه الأكمل، بل لقد انتهت إلى أن تكون لها جمالياتها الخاصة التي يعرفها الزجَّالون وكتَّاب كلمات الأغاني، والتي تجلَّت كذلك في الأمثال الشعبية التي لم تزل تتناقلها الأجيال كابراً عن كابر.

لا معنى على الإطلاق لمعاداة العامية من حيث هي لغة تواصل طبيعي، ولا سبيل بالطبع إلى إزالتها أو إلغائها، بل على العكس من ذلك، ينبغي تأمل العامية تأملاً عميقاً، فهي ليست لغة تخلَّقت من العدم، بل ما من لفظ عامي إلا وله أصل ما في اللغة، العربية أو غيرها، علمه من علمه وجهله من جهله. تتيح لنا العامية أن نتحسَّس نبض الأعماق، وأن نفهم عن الناس بعيد شجونهم، وربما أفادتنا في العربية الفصحى إفادة عظمى حين تحملنا ألفاظها على البحث في المعاجم، ويا للدهشة حين نكتشف أن جلَّ ما ننطق به بعاميتنا ما هو إلا فصحى تحوَّرت.

لم تتطور العامية ولم تشِع إلا لأنها تسهِّل التواصل، وتقتصد في أدواته، ولها دون شك مستوياتها الصوابية الخاصة، وبوسع الأدب بطبيعة الحال أن يعمل على سدِّ الفجوة بينها وبين الفصحى عبر التقريب بينهما، وعبر استيعاب الألفاظ العامية الموافقة للقوالب الفصيحة، وبذلك تصير العلاقة بين العامية والفصحى علاقة إفادة متبادلة دون عداوة ولا بغضاء، كل هذا مع مراعاة أنَّ لكل مقام مقالاً، وأن لكلتا اللغتين مجالاً حيوياً تنشط فيه بحيث لا ينبغي أن يقع بينهما تداخل واصطدام (الفصحى في الحياة اليومية مستحيلة، والتفاصح مع العوام وخيم العواقب، كما أن السرد الروائي بالعامية جريمة أدبية يجب أن يعاقب عليها القانون).

* لغتنا العالية، لغة العلم والأدب:

“إذا كانت اللغات جميعاً لغاتٍ تمشي فإن العربية لغةٌ تطير”.

ختم الكاتب كتابه بفصول بديعة في الانتصار للعربية والاعتزاز بها، مؤكداً على أنها لغة العلم، وأن تعريب العلوم ضرورة ملحة لتحقيق التقدم المنشود.

يقول الكاتب: “يسيء الظنَّ بالعربية من يخشى على العربية من لغة العلوم. العربية لغة شديدة المرونة هائلة الجِرم تتطور من داخلها، تهضم العلم ولا يهضمها العلم، وكل ما يتمُّ في العربية من ترجمة أو تعريب هو رصيدٌ يضاف إلى العربية ويثريها، ويفتق فيها عوالم جديدة، وينقل إليها أجواءً ومناخاتٍ مغايرة، ولا ضير البتة من أخذ اللفظ الأجنبي كما هو وتعليمه العربية، أعني تعريبه، أي تطويعه للمقتضيات الصوتية والصرفية للغة العربية، بحيث “يستعرب” ويصبح عربياً ونكاد ننسى أصله الأجنبي”.

العربية لغة ساحرة بكل تفاصيلها، بحروفها التي تحمل الفتح والضمَّ والكسر والسكون، وبما يضاف إلى تلك الحروف من المُدود وبما يُحدث ائتلافها من الأصوات المتناغمة. تُضمُّ الحروف إلى الحروف والكلمات إلى الكلمات، فإذا بآفاق من المعاني مترامية الأطراف لا يحدُّها البصر.

العربية لغة تستوعب كافة المعاني، وتهضم كافة الألفاظ من سائر اللغات، صالحةٌ لكل زمان وكل مكان، ومحفوظةٌ بحفظ الله لكتابه العزيز.

لقد أبان الكاتب في خاتمة كتابه عن انتماء عربي عميق واعتزاز بالعربية لا أنكر أني دهشتُ له، لما أعرفه عنه من التأثر الواضح بالفلسفات الغربية المادية، لكنه في كتابه هذا كان جريء الطرح مستقلَّ الشخصية، وقد خاض في مواضيع قلَّما تُطرح في ساحتنا الأدبية هذه الأيام، معتمداً في ذلك على المنطلقات التالية:

⁃ الرؤية الوسطية للغة العربية، والتي تجمع بين البعد عن التقديس المفرط الذي يؤدي إلى الجمود والتحنيط، وبين الاعتزاز العميق والصادق بالانتماء لهذا اللسان العربي المبين.

⁃ محاولة إنقاذ اللغة من جناية النحو عليها، عبر الاستقراء التاريخي لنشأة التزمت النحوي وتطوره، وكيف انتهى إلى أن يصير منهجاً دخيلاً على اللغة خانقاً لها.

⁃ التأكيد على رحابة اللغة وتسامحها، ومرونتها الشديدة واستيعابها للتعريب والاشتقاق، وأن كل إضافةٍ إلى العربية إثراءٌ لها.

⁃ محاولة عقد الصلح بين العامية والفصحى، وأن تكون بينهما علاقة تبادلية دون طغيان إحداهما على مجالات الأخرى.

⁃ التأكيد على ضرورة تعريب العلوم، وإخضاع المصطلحات العلمية الأجنبية للتعريب.

⁃ الدعوة إلى التمسك بالعربية، والاعتزاز بها، إلى تعليمها وتعلُّمها، وإلى أن نعتبرها “جيناً” من جيناتنا، ومكوناً أصيلاً من ذواتنا وأرواحنا. بذلك لن نكون أذيالاً لغيرنا، نتنفَّج بلغتهم، ونقلدهم في حركاتهم وسكناتهم، وما عندنا أفضل مما لديهم.

(مغالطات لغوية) كتاب قيم جريء الطرح، بالغ الإمتاع والإفادة. كانت قراءته واحدة من أنفع تجاربي القرائية على الإطلاق، وأقول عنه كما قلتُ عن أخيه (المغالطات المنطقية): كتاب يجب أن يُقرأ ويُقرأ، وأن تعاد قراءته، وأن يصير مرجعاً يُرجع إليه…

#أنس_سعيد_محمد

30/03/2021

الصفحة التالية «

المدونة على ووردبريس.كوم.
Entries و تعليقات feeds.